أجرى المقابلة: الشيخ نوح
في إطار الدور التثقيفي والثقافي للإعلام دوما، نجري سلسلة لقاءات في صحيفة تقدمي مع فاعلين ثقافيين وكتاب ومفكرين من موريتانيا ومن العالم العربي.
هذه المرة ستكون إطلالتنا من نافذة الروائي الموريتاني أحمدو ولد الحافظ، نناقشه حول السرد الموريتاني، ونغوص معه في شجونه الفكرية ومشروعه الفلسفي، ونستدعي من ذاكرته حنينا ماضويا لمراحل فارطة من ممارساته الجمالية ولهاثه المستمر نحو الخلق والذي ورطه في استطيقا القول الشعري الحساني المعروف ب”لغنَ”. كل ذلك وأكثر تجدونه في الحوار التالي. متابعة ممتعة.
أثارت روايتك الأولى”عناقيد الرذيلة” لغطا بعد صدورها منذ سنوات. في تقديرك، ما هي أهم كوابح الكتابة الروائية في موريتانيا؟
في البدء، لك كل التقدير والمودة على هذه السانحة التي أتحت لنا لنتكلم حول فضاء أصبح- في هذه الأرض- قمة الترف والرفاهية للذين يُفترض أنه يعنيهم، وذيل الصفاقة والفجور لأولئك الدخلاء والمتطفلين..!
الكتابة الروائية في موريتانيا- ورغم ما نكاد نلحظه هذه الفترة من ديناميكيتها- لا تزال خجولة وباهتة؛ حين نقارنها بعمرها، أو نقارنها بالفضاءات الأخرى الشبيهة؛ أو حتى حين نقارنها ببقية الأجناس الأدبية، لعل جزءا من هذا الواقع مرده أن الذائقة الأدبية العامة لا تزال “متورطة” في قيم “النظم” (حتى لا أقول الشعر) تلك القيم المخالفة في العديد من أنساقها لقيم السرد عموما، والرواية بصورة أخص، فالبنية- كما تعرفون- في النظم (انطلاقا من عمود المرزوقي المتبنى هنا- رسميا- من طرف الذائقة العامة) يقوم على أساس العلاقة العمودية بين النص والبيئة، عكس العلاقة في السرد القائمة على علاقة أفقية.
ربما شكل هذا الواقع (الموضوعي) نواة لكوابح- يختلط فيها الموضوعي بالذاتي- توقف مشاريع العديد من الكتاب، أو توجهها على الأقل، ففي واقع كواقعنا، ليس مألوفا أن يكون الدافع ترفا أو ترفيها.. لذلك حين يكتب الكاتب فمعنى ذلك- في الغالب- أن موهبة جارفة عبرت رغم كل الحواجز، أو آلاما، أو أحزانا، أو أفراحا، أو أتراحا.. لم يعد لها سبيل للبقاء منولوجا داخليا..
في العموم، نكتب انطلاقا من هذه السياقات، ولأننا محكومون بأنساق ثقافية مركبة توجهنا (دون أن نشعر بالضرورة) فإن الكاتب عندنا (كالكل ربما) متعجل على الحصاد، وكسول في ذات الوقت؛ من هنا يتجه الكاتب إلى البحث- اتكائا على التجارب الفارطة- عن معايير الاستحسان لدى القارئ؛ لأنه يريد جمهورا جاهزا، فتغيب ذات الكاتب، وتغيب الرسالة.. واقع خلق نوعا من الديكتاتورية الثقافية لدى القارئ؛ إذ أضحى يرفض أي كتابة لا تنسجم مع ذائقته (المركبة من اعتبارات ومعايير قد تكون فنية الكتابة آخرها)!.
أي خروج عن هذا السائد هو خسارة -آنية على الأقل- للذائقة العامة؛ وبالتالي الحكم على المكتوب بالمنفى، وهذا- بالضبط- ما حدث مع روايتي الأولى (عناقيد الرذيلة) بل وروايتي الثانية أيضا (خطايا مقدسة)، من هنا فإنه في تقديري من أكبر كوابح الكتابة عندنا أن الجمهور يريد أن يحدد للكاتب ما عليه أن يكتب، وما عليه أن لا يكتب، وانطلاقا من آليات ومفاهيم تحارب الخيال وتحارب الحرية (وهما أساسا الكتابة).
غالبية الموريتانيين كتبوا يوما ما أو كانت لهم محاولات شعرية، هل سبق لك أن غازلت الشعر؟
أذكر أنني حين كنت مراهقاً كنت مولعا بالشعر، مولعا بحفظه وبإنشاده.. وربما حاولت نسجه، وذات مرة- على وجه المزاح- قال لي أحد الذين كنت أعرض- أو على الأدق أستعرض- عليهم قدراتي الشعرية في الحفظ والإنشاد والإنشاء.. قال لي أنت فيك خصلة من خصال الأنبياء واقتبس من الآية الكريمة (وما علمناه الشعر وما ينبغي).
لعلي اقتنعت بعد تلك الشذرة النقدية بالعزوف عن محاولة الشعر، والحقيقة أنها كانت محاولات خجولة وباهتة، وفي مراحل باكرة من الحياة.. مع أن “الشعر الشعبي” تربطني به صلات عميقة.. أحب غزله ونسيبه؛ بل لعلي لا زلت أتمنى أن أكون شاعرا شعبيا ينسج في الغزل والنسيب.. لكن فيهما فقط!
هل أنت متوقف عن الكتابة أم مستقيل. منذ سنوات لم تنشر؟
لا هذا ولا ذاك..أكتب، وبكثافة أكثر من الماضي (ربما) لكنني لست مستعجلا على النشر. أو لعله خُيل إلي أن هذه الظرفية وما تحمله من ترصد بالكتابات الخارجة على الصندوق، وكسل لدى القارئ، وما تحمله- في ذات الوقت- من أدوات لهدم الصندوق تجعل مادة الوسائط الاجتماعية (بحجمها الصغير والمباشر) أقدر على المساهمة.
أعتقد أننا نعيش تطورا متسارعا- إن لم يكن تسارعا مذهلا- في إعادة بناء القيم الأدبية والفكرية.. لقد أصبح متناولو فلسفة المعنى في اتساع أفقي ملحوظ، وعمودي كذلك.. من هنا فإن الاستقالة من الكتابة- في وجه هذا الأفق الجميل- خيانة عظمى، إنها مثل التولي يوم الزحف تماما.. أما التوقف عن الكتابة فلا أعتقده- في الأصل- ممكنا؛ إنه يشبه قرار التوقف عن التنفس؛ الذي لن يستطيع الإنسان- مهما أصر- تنفيذه.. الكتابة؛ الأقلام والقراطيس هي رئة الكاتب، وحين يقرر التوقف عنها فمعنى ذلك أنه يقرر الموت، والكتاب لا يموتون، ولا يمكن أن يموتوا؛ حتى حين يقتنع الكاتب بالانتحار فإنه لا يستطيع..!
يتحدث البعض عن وجود تجارب أدبية شخصية في موريتانيا ولكن من الصعب أن نتحدث عن ساحة أدبية وفكرية في البلد، هل توافق؟
أتصور أننا في موريتانيا رسميا على الأقل (وأقتصد بالرسمي ما تم التواضع عليه من قبل الغالبية) نعاني بشأن الأدب والفكر -والثقافة عموما- من خلل بنيوي تأسيسي؛ إذ لم نحسم – بعدُ- تساؤلات من قبيل:
ما هو الأدب؛ ومن ثم من هو الأديب؟ وما هو الفكر؛ وعليه من هو المفكر؟ وحتى؛ ما هي الثقافة؛ ومن هو المثقف؟ والعودة إلى الأطر “التنظيمية” التي تحاول الإجابة على هذه الأسئلة تؤكد هذا المأزق البنيوي، فالكتل الثقافية والأدبية (الموجودة هنا) لا تستطيع- إلا نادرا- أن تجيبك على هذه التساؤلات.
من هنا فإنني أوافقك- تماما- على هذا الطرح: ثمة تجارب ذاتية جادة وواعدة أيضا؛ لكن الساحة الثقافية (كجسم) ساحة غائمة مفاهيميا، ولا أعتقد أنه قبل تحديد تلك المفاهيم يمكنها تجاوز ذلك الواقع.
كيف ترى الوضع في البلد من كل النواحي التي لك احتكاك بها منذ الاستقلال إلى اليوم؟
في الواقع؛ أن البلد- كما رأيناه ونراه- يعاني الكثير، ولأنني لا أحب التشاؤم، وأحبذ التفاؤل غالبا؛ فإنني أتمنى أن نهجر ما عايشناه في هذه الأرض من “تحولات” سالبة؛ لقد شهد البلد -منذ نهاية الثمانينات- رِدة في التسامح والحرية غير مسبوقة؛ فمع بداية مد ما عُرف ب”الصحوة الإسلامية”حوربت كل مظاهر التعدد وكل مظاهر الحرية؛ أغلقت كل دور السينما، رُفض أي جنس أدبي لا يخضع لمعايير “القوم الأخلاقية” أصبحت المرأة أداة للصراع “الفكري” مع المجتمع ومع الخصوم؛ لتدفع حريتها في كل أنساق حياتها ثمناً لذلك الصراع وتلك الردة!
عايشنا عالما من فجاجة “النخبة”- حتى لا أقول وقاحتها- أدى إلى ممارستها دورها بالمقلوب؛ فبدل أن تتصدر المشهد لتوعية وتنوير العامة، أضحت تتسابق من أجل كسب ود الدهماء، التي غدت تبيع صكوك غفرانها، موزعة شهاداتها بالتزام هذا “المثقف” أو خيانة ذلك، أو احترام هذا “الكاتب” أو صفاقة غيره.. ليغدو أقصى طموح “المثقف” هو كسب مشاعر “غوغاء” بُنيت ثقافتها وفق منظومة قروسطوية متجاوزة..!
لقد أدى السلوك “النخبوي” هذا إلى التطبيع العفوي مع النفاق؛ حيث أضحى جزءا من المكانيزم الشرعية لحركة المجتمع.. ومع كل هذا ثمة بوادر لشيء من الأمل.
يرى الكثيرون أن المجتمع الموريتاني يوما بعد يوم يزداد انغلاقا، ما رأيك، وما الأسباب إن كنت تتفق مع هذا الطرح؟
أتفق مع هذا الطرح بنسبة كبيرة، وكما ذكرت في الإجابة الفارطة، لقد أدت حالة “الصحوة الإسلامية” التي ظهرت عندنا ثمانينات القرن الماضي إلى تحول اجتماعي كبير، خصوصاً في الأمور المتعلقة بقيم التسامح والتعايش والاختلاف والحرية..
ندرك ذلك حين نقارن بين الواقع أيامها والواقع اليوم، إذ لم يكن المجتمع يعبأ بلبس المرأة ولا بحلاقة الأطفال ولا بالاختلاط.. كانت هذه الأشياء- في نظر المجتمع والدولة- حرية شخصية لا يُتدخل فيها من طرف أي كان، واليوم نرى التدخل في أدق حياة الإنسان؛ في ملبسه ومسكنه وحلاقته.
نتمنى أن تنعكس “هزيمة الصحوة” أو تخلي “الممولين” عنها على واقع الانفتاح عندنا؛ حتى يعود نفس الحرية والانفتاح إلى المجتمع وإلى الدولة.. ولعل بعض البوادر- بهذا الشأن- تلوح في الأفق القريب.
لك اهتمامات فكرية كذلك، وقد أنشأت مركز الحلاج للتسامح، إلى أي درجة يمكن أن نراهن على التغيير الفكري والثقافي، وأين هم المثقفون من مسؤوليتهم الطبيعية في المجتمع؟
من باب التصحيح؛ لقد تم تغيير اسم المركز ليصبح مركز تسامح لنشر فكر التعايش والسلام، وذلك لأسباب تدخل في إطار الإشكالية السابقة التي طرحت (إشكالية الانغلاق ورفض الآخر) وبالعودة إلى السؤال صحيح ما ذكرت؛ أو لعل اهتماماتي الفكرية أصبحت تمثل الأولوية، وأصبحت قناعتي تكاد تترسخ بأن التغيير الثقافي هو وحده الذي يمكن التعويل عليه، أو الأمل فيه.. خصوصاً مع انتكاسة العقد الاجتماعي التي أشرنا إليها، ومع تراجع قيم الدولة الوطنية.
لقد ارتهن المثقف للمشاريع الأيديولوجية والسياسية، وتخلى- في الغالب- عن رسالتها التوعوية والتثقيفية؛ بل يهيأ لي أن إرادة جادة من طرف السلط السائدة (الاجتماعية السياسية الفكرية..) تصر على محاصرة أي مثقف يرفض الانصياع لهذا السقوط.. إنها تصر- بكل أسف- على أن يأكل المثقف بثديه.. في تقديري أن واقع المثقف المزري والمؤسف عندنا تتحمل السلط مسؤوليته.
كيف ترى مستقبل البلد؟
انطلاقا من استقراء الماضي قد لا يبدو المستقبل منيرا كثيرا؛ أو لعله قاتما.. نحن قادمون من أربعينية قاتمة، تغول فيها الجهل والحقد والصفاقة.. ليس من اليسير أن نتجاهل ذلك الإرث وذلك التراكم خلال أي استقراء للمستقبل؛ غير أن بعض النور (ولا يزال ضئيلا) يلوح وراء نهاية النفق.. أتمنى أن يكون صادقا وأن لا يكون سرابا..!
ما هي أهم مشاريعك في المستقبل المنظور روائيا وفكريا؟
هناك الكثير من الأمل والكثير من الطموح.. أرجو أن أجد من الوقت ما يسمح بترجمته.. وسامحني -عزيزي- في اقتضاب الإجابات -أحيانا- وفي تراكم الجمل الاعتراضية أحايين أخرى؛ فربما للأمر علاقة بالحالة النفسية (كما يقرر التأويليون) ثمة واقع -ثقافي- ضاغط، وعلى كل حال؛ شكرا لك مرة أخرى، ولصحيفة تقدمي، على هذه السانحة النادرة.
ولكم كامل مودتي وتقديري
سيرة ذاتية مختصرة للروائي أحمد ولد الحافظ
رئيس مركز تسامح لنشر فكر التعايش والسلام (موريتانيا)
(روائي وكاتب)
من مواليد مدينة بوتلميت ١٩٧٦
خريج كل من جامعة نواكشوط والمدرسة العليا للأساتذة (قسم الأدب العربي)
الأعمال المنشورة:
ـ شعر السجون في الأدب الموريتاني (بحث لنيل شهادة المتريز من جامعة نواكشوط 2002-2003)
ـ عناقيد الرذيلة ـ رواية/ الدار العربية للعلوم ناشرون 2016
ـ خطايا مقدسة ـ رواية/ إي-كتب للنشر 2018
ـ قيم الطلل الجاهلي وتأثيرها على بناء العقل العربي- دراسة تحليلية (أطروحة دكتورة/ قيد الإنجاز)
-سورة يوسف: قبسات من التسامح /لم يطبع بعد
ـ عديد المقالات المنوعة في أهم المواقع والجرائد الموريتانية والعربية.