العادات الخفية لمن يمارسون مهنة الكتابة قد تحفها تفاصيل مثيرة للفضول لدى متابعيهم وقرائهم، ذلك أن عملية الإبداع ذاتها محاطة بهالة من الغموض، الذي يغذيه الطابع الفني للأعمال التي تنتج عن العملية الإبداعية، ولطالما سمعنا وقرأنا عن عادات معينة وخاصة لكتاب أثناء ممارستهم الكتابية، فقد كان ويليام فوكنر مثلا يكتب على طاولة صغيرة أهدتها له أمه، بينما كان نزار قباني لا يكتب إلا بعد أن يلبس ملابسه كاملة ويتأنق، أما نجيب محفوظ فكانت له عادة أخرى تتمثل في المشي مسافات طويلة قبل الشروع في الكتابة.
في هذه السانحة، ومحاولة لاستجلاء غوامض الكتابة لديهم، عبر الدخول إلى السراديب السرية لعوالمهم، حاولنا الاقتراب من التفاصيل الخصوصية للكتاب والمؤلفين الموريتانيين. فكيف يمارس هؤلاء مهنتهم في بعدها اليومي، وما هي الأجواء والطقوس الخاصة المحيطة بعملية إنتاج أعمالهم؟

ثم هل تأثرت عوالمهم بجائحة كورونا وما أفرزته من ظروف استثنائية، وما فرضته من قواعد وإجراءات احترازية، حدّت من حرية الحركة بالنسبة لكثيرين، ومثلت فرصة للمزيد من الاحتكاك بالأهل والانغماس في الدفء العائلي لدى آخرين؟.

“لا تحتاج الكتابة طقوسا محددة… الكتابة بحاجة لادبيات وطقوس خاصة” 

حملنا هذه الأسئلة إلى كاتب دواوين “أجفان الليل” و”أرماس السراب” و”أوجاع الطين” وغيرها، القاضي محمد عينين، الذي رأى أن الكتابة لا تحتاج بالضرورة ترتيبات خاصة، والذي أجاب بالقول “بالنسبة لي لا طقوس محددة للكتابة، وفي أي وقت أتعرض فيه لموقف يستفز في نفسي الرغبة في الكتابة، ويتوازى لي ذلك الموقف مع أي موسيقى لأي بحر، سواء من بحور الشعر المكتملة أو المجزوءة، المألوفة أو المهجورة، عندها تولد لحظة الكتابة الشعرية مهما كانت الظروف الزمانية والمكانية. فقد يكون الظرف الزماني ليلا أو نهارا، صباحا أو مساء أو زوالا”.

وبخصوص أغرب ما في أجواء الكتابة من مواقف لدى القاضي محمد عينين، فقد أجاب الشاعر أن الحيز المكاني أحيانا قد يكون غير مناسب، مؤكدا أنه كتب أكثر من مرة خلال السير أو خلال قيادته للسيارة. في حين أجاب على سؤال بشأن ما فرضته الجائحة من ظروف، معترفا بأنها لم تؤثر على عالمه الإبداعي بشكل مصيري، دون أن ينفي أن موقفا ما من إملاء ظروف الإغلاق خلال الجائحة قد يشكل لحظة انفعالية ما لكتابة نص شعري.

أما بالنسبة للروائي أحمد ولد الحافظ، فإنه قارب موضوع التفاصيل التي تحيط الكتابة من زاويته الخاصة، حيث أجاب على الأسئلة ذات الصلة بقوله إنه “من الصدف اللغوية الجميلة أن الكتابة على وزن العبادة؛ لذلك فهي في تقديري -مثل كل العبادات- تحتاج أدبيات، وشيئا من الطقوس؛ قلت مرة إنه لا رونق لكاتب لا يُخرج الكبريت من جيبه.. من هنا أعتقد أنّ اللحظات التي شكلت باكورة إرادة الكتابة لدي، كانت أيام الجامعة؛ وقد اعتدتُ خلالها، وبالذات حين كنت في السكن الجامعي، أن أخلو بغرفتي وحيدًا؛ بحيث أدخن بمنتهى الحرية، وأشرب الشاي بكل فوضوية، وأفكر بصوت عال؛ ولعل تلك الطقوس لا تزال ترافقني، لا أقول إنّني لا أستطيع ممارسة الكتابة دونها؛ لكنني أكون مرتاحًا أكثر، ومنسابًا قلمي، حين أتمثلها، مع أنّني كتبت -أيضا- في زحام المقاهي؛ وكنت مرتاحًا كثيرًا والضوضاء والدخان يملآن الفضاء.

أما الشاعر والديبلوماسي محمد المحبوبي، فقد رد على سؤال الكتابة وملحقاتها بقوله “الجو العام والخاص مفردتان من مفردات الإلهام الكبرى بالنسبة للشاعر؛ يحدد فيهما ذاته.. يشاهد الحياة من خلالهما.. ويركن إلى روحه ولحظات أزمنته المتمايزة..
والكتاب يختلفون في التعاطي مع المناخ الذي ينادمون فيه أعمالهم، وإذا كان أغلبهم يفضل الأجواء القصيّة؛ فإنني لا أعترف بطقس معين.. أكتب حين تظلني عروش المساء وتحيطني السكينة بعباءتها، كما تستيقظ ذاكرتي على دنيا الإلهام حين تعتمل الآلة وتضج النهارات فأجدني أفصح عما يكنُّه ابن آدم من أخيلة المشاعر الحية، وأفكار الألباب المائجة.
لا أخطط للقول الشعري، أكتب تبعا لمناخات النفس البشرية، وفصول عاطفة ابن آدم فقط؛ فكلما حانت ساعة البوح .. أجدني مُحتفيا بالنصر الآتي من مدائن الحرف.. مُغتسلا في سحائب التبيين.. ومُغنيا للرؤى الوارفة..”

“هناك طقس واحد للكتابة وهو الاستمرار دون انقطاع” 

الأسئلة ذاتها طرحناها على الروائي أحمد ولد إسلمُ، والذي عبّر عن عدم إيمانه بوجود طقوس خاصة ترتبط بالكتابة، باستثناء طقس واحد بالنسبة له، وهو “الاستمرار في الكتابة دون انقطاع”، وأضاف ولد إسلمُ أنه خلال كتابته لروايته “حياة مثقوبة” لم يلتزم بطقس يذكر غير الكتابة المتواصلة لمدة خمسة عشر يوما، كما هو الأمر أيضا أثناء كتابته لروايته الأخيرة “البراني”، والتي كلفته زمنيا ستة عشر يوما متتالية، مضيفا أنه استفاد من إجازتين متفرقتين واغتنم أيام فراغه لكتابة العملين الذين قال إنهما كانا جاهزين في الذهن، مؤكدا أن ما يحتاجه عادة في الكتابة من طقوس هو الكتابة في غرفة مغلقة في جو هادئ أحيانا أو مع الاستماع إلى الموسيقى في أحيان أخرى، مضيفا في الوقت ذاته ‘ليس لدي عادات ثابتة في الكتابة، وبحكم أني أسلك في كتاباتي الأخيرة اتجاها خياليا علميا، فعملية البحث والقراءة في مجالات التطور التكنولوجي تأخذ معظم الجهد، أما الكتابة نفسها فعادة لا تستغرق إلا أسابيع قليلة، لكن الثابت فيها هو هدوء المكان، عادة أدخل إلى مكتبي واستمع إلى موسيقى موريتانية قديمة وأستغرق عدة ساعات خلال أيام متواصلة حتى أنهي الكتاب. وإذا انقطعت عن الكتابة في رواية معينة مدة طويلة فغالبا لا ترى النور.”


“عادة لا أكتب في الصيف… قد أعتمد تقنية الكتابة من الصفر” 

الشاعر مولاي علي الحسن هو الآخر كشف لنا تفاصيل من عوالمه الإبداعية الخاصة، مجيبا على الأسئلة نفسها بخصوص مناخات الكتابة لديه، والتي استهل الإجابة عليها بقوله “زخّات الموسيقى… الشايُ المنكّه بالنعناع… تفاصيل الأنوثة.. وأسئلة الذات… مستثيراتٌ لهرمون الكتابة في دمي”.
وفي الزاوية الخاصة بالروتين اليومي لكتابة يقول مولاي ” ليس لدي روتين مع القلم أو لوحة المفاتيح؛ كتاباتي غير منتظمة ولا مؤقتة بمواعيد دورية؛ فيندر أن أقابل بياض الورق أو الشاشة بصمت مسبَق؛ الذهن أولا قبل التدوين، دائما ما أنتظر ما يقدح الشرارة الأولى في وعيي، أو في لاوعيي، قد يكون فكرةً/أفكارا تواردت أثناء قراءة أو تأمّل، أو لحنًا مندسّا بين أمواج الصمت، أو مشهدا مكثفا في فيلم ما، أو ملامح على محيّا غريب أو غريبة في الشارع، وقد لا يكون أكثر من إحدى ثمار الخيال أو الذاكرة!”. وللغوص أكثر في التفاصيل الأكثر خصوصية لعوالم الكاتب، ومدى قدرته على التوفيق بين اليومي العادي وبين متطلبات الاهتمامات الفنية، أجاب “في بعض الفُرص الأكيدة للكتابة، يحدث أن تطالني ضرورة اليومي والمعيش؛ لتخرس لغتي المتوثّبة، فأنصرف إلى دواعي الواجبات السمجة والمتكررة للحياة، وأفوّت/أؤجّل الموعد المفاجئ.

الكتابة المتقطّعة أيضا، والكتابة بالتوازي، عادتان اكتسبتهما على مرّ النصوص”
غير أن مولاي، حين يتعلق الأمر بالحسم بشأن أوقات الكتابة والانغماس في العوالم الموازية، يبدو أكثر صراحة وحدية، مؤكدا “طقسي في الكتابة ليليٌ بامتياز؛ حيث الصمت هبةٌ وفيرة وثمينة؛ أحتاج دائما، إلى الإنصات برهبانية لتموجات الذات، وذبذبات الوحي الخفيّ؛ فالعزلة هي الملاذ الأثير لمن تتنازعه فخاخ اللغة. عادة لا أكتب في الصّيف؛ الحرّ يفقدني الشغف والشهيّة، وخلافا أشتهي مواعيد اللغة في الشتاء؛ الشتاء صديقٌ قديم للشعر والأغاني والروايات، أما الصيف فعاثر وقت وحظ. وكما هو حال كل إدمان؛ لابدّ للكتابة من مزاج مؤات”.

بخصوص رأي الصحفي والقاص والروائي الربيع ولد إدومو في علاقة الكاتب بالمحيط والتفاصيل الصغيرة التي تطوقه، فقد لخصه بقوله” فيما يرتبط بطقوس الكتابة، فإنه لا وجود لطقوس روتينية وثابته بالنسبة إلي، وإن كانت طبيعة عملي الصحفي أحيانا، خاصة خلال التغطيات، تجعلني أنزوي من وقت لآخر من أجل تسجيل موقف طريف أو حادثة مثيرة للانتباه، وسط جفاف العمل الصحفي الصارم، وهذا أحيانا يخلق نوعا من الإشكال؛ لا سيما مع المؤسسات التي أعمل معها بشكل حر أو تعاقدي، لأن المرافق لي قد يعتقد أني انشغلت بأمور جانبية عن المهمة الرسمية، أو أحيانا إذا تصادف اتصال المؤسسة بي هاتفيا مع لحظة الكتابة، حيث قد يخلق هذا الأمر انطباعا لديهم، بأن لدى المرء الوقت للكتابة على الفيسبوك بينما ليس لديه الوقت للرد على اتصال عمل. وهذا الأمر يبين إلى حد ما النظرة التي لا تتحلى بالكثير من الجدية لما يكتب على الفيسبوك. بينما أرى أن الموضوع جدي ومُلح، وإذا لم أقبض على الفكرة في الحين، فقد تفلت مني نهائيا، لا سيما أن مثل هذه المواضيع تكون في الغالب سريعة وتفاعلية، وربما مثل هذه الكتابات على الفيسبوك، في تقديري، قد تمهد للقصة الفيسبوكية والرواية الفيسبوكية. مثل هذه المواقف قد لا تخلو من طرافة ومن إحراج معا، وتطرح فعلا سؤال الكتابة وعلاقتها بالمكان واللحظات الفجائية.
أحيانا أيضا في إطار مناخات الكتابة دائما، قد يحدث معي ما يسميه نجيب محفوظ “الكتابة من الصفر” بمعنى أن تتملكني رغبة مبهمة للكتابة، ولكن دون أن يكون الموضوع المحدد للكتابة واضحا وناضجا بالنسبة إلي، ولكني ما إن أباشر الكتابة حتى تتداعى الأفكار، وكأن الكتابة ذاتها حرضت لدي الهواية والشغف، وبالتالي أجد نفسي في النهاية أمام نص متكامل، قد يكون ذا طابع أدبي أو ذا طابع صحفي.