اعْتَدْتُ خلال النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي الاستماع إلى بعض برامج القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، وعلى رأسها البرنامج الأدبي “رياض الشعر” الذي كان يتعاقب على التفسح فيه محمد سليمان، وبسَّام العنداري، وعارف حجاوي. وكان القوم على طرفَين وواسطة، ففي حين كان يوغل الأول في الشعر الحر بصوره البعيدة الموغلة في الرمزية، كان الثالثُ يُؤثِرُ الشعرَ العموديَ والأدب العربيَ الأصيل، كما سطرهما أبو الفرج الاصفهاني في أغانيه، وأوردهما المُبردُ في كامله، وساقهما أبو علي القالي في أماليه ونوادره، وضمنهما غيرهم من أعلام الأدب العربي بين دِفافِ كتبهم ، بينما كان الثاني يجمع بين اللونَين وإن كنت أحس أنه أقرب لنهج الأول.
وقد كنت بالطبيعة – نعوذ بالله من التطرف – أميل إلى الطرف الثالث، فقد كنت “أجد ذاتي”- كما يقولون كثيراً في البلاد مؤخرا – في حلقات عارف حجاوي الماتعة التي تصل بسلاسة ولباقة بين الأدب القديم والشعر الخليلي المعاصر، بأداء كائن أدبي وخبير لغوي وعارف بما هو بصدده.
من حلقاته التي ما تزال عالقة بالذاكرة أكثر من غيرها حلقة جرَّته فيها التداعيات الممتعة إلى القوافي المنتهية بِـ”هاء السكت”، فاستطرد منها أمثلة جميلة لعدة شعراء منهم ابن قيس الرقيات وعبد الله بن الزَّبير الأسدي ويحيى بن أبي حفصة وشاعر النيل حافظ إبراهيم والشاعر الفلسطيني الشاب إبراهيم طوقان … كان أغلب تلك الأشعار جديداً عليَ غيرَ أن القافية لم تكن كذلك، فقد تعرفت في سنواتي الأولى على أبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، التي قالها يوم غزوة مؤتة التي استشهد فيها وكان أحد أمرائها بعد زيد بن حارثة وجعفر الطيار بن أبي طالب رضي الله عنهما
أَقسَمتُ يا نَفسُ لَتَنزِلِنَّهْ
لَتَنزِلِنَّ أَو لَتُكرَهِنَّهْ
إِن أَجلَبَ الناسُ وَشَدّوا الرَنَّهْ
ما لي أَراكِ تَكرَهينَ الجَنَّة
قَد طالَما قَد كُنتِ مُطمَئِنَّهْ
هَل أَنتِ إِلّا نُطفَةٌ في شَنَّهْ
أنشد عارف حجاوي في أول حلقته أبياتاً قالها الزَّبير بن عبد الله بن الزَّبير بن الأشم الأسدي في مدح محمد بن عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري يقول منها
قــالت عُــبـَـيـدةُ مَوهـناً
اين اعتراك الهم أينهْ
هــل تـبـلغـنَّ بـك المُنَى
ما كنت تأمل في عُيَيْنَهْ
بَـدرٌ له الشـيـمُ الكـرا
ئمُ كـامـلاتٌ فـاعْـتَليْنَهْ
والجــوعُ يـقـتـله النـدى
مِنـه إذا قَـحْـطٌ تـرَيْـنَـهْ
وجرَّته هذه الأبيات إلى أخرى قالها الشاعر القديم عبد الله بن قيس الرقيات من بني عامر بن لؤي القَرشيين، وقد سُميَ “الرقيات” لأنه تغزل بعدة نساء اسم كل واحدة منهن “رقية”
بكر العواذل في الصبا
حِ يَلُمْنَـنِي وألومهنهْ
ويقلن : شَيبٌ قد علا
كَ وقد كبرتَ فقلتُ : إنهْ
لابد من شيبٍ فدعْ
نَ ولا تُطلنَ مَلامكنَّهْ
يَمْشِينَ كالبَقَرِ الثِّقا
لِ عَمَدْنَ نحو مُرِاحِهِنَّهْ
ثم يصل إلى قطعة حلتها طرافة الأسلوب وزانتها جزالة التعبير، قالها الشاعر الأموي يحيى بن أبي حفصةَ يعزي فيها الوليد بن عبد الملك بن مروان في وفاة أبيه الخليفة المُظفر عبد الملك ويهنئه في نفس الوقت باعتلائه عرش الخلافة بعد أبيه، ويحيى هذا هو جد الشاعر الأموي والعباسي مروان بن أبي حفصة ذي الشعر القوي الرصين، المُكثر من المديح والهجاء، يقول يحيى بن أبي حفصة
لو كان خَلقٌ لِلمنايا مُفلتاً
كان الخليفة مُفلتا مِنهنّه
بكتِ المنابُر يومَ مات وإنما
بكتِ المنابُر فقد فارسهنّهْ
لمّا علاهنّ الوليدُ خليفةً
قُلْن: ابنَه و نظيرَه فَسَكنّهْ
لو غيره قرعَ المنابرَ بعده
لَنَكرْنه فَطَرحْنَه عنهنّه
ثم يقفز مقدم البرنامج قفزة زمنية كبيرة أوصلته إلى شاعر النيل حافظ إبراهيم، وبالتحديد إلى قصيدة سردية وصفية جميلة – لا تخلو من غزل خفي – قالها حافظ بمناسبة مظاهرة للنساء المصريات خلال ثورة 1919م ضد الاحتلال البريطاني، تلك الثورة التي قادها “الوفد المصري” بزعامة المناضل سعد زغلول …
خرج الغواني يحتججـْـ
ـنَ ورُحت أرقبُ جمعهنَّـهْ
فإذا بهن تَخِذْنَ مِن
سُود الثياب شـــعارَهنَّـهْ
فَطلَعْنَ مِثلَ كواكبٍ
يسطعنَ في وسَط الدجنَّـهْ
وأخَذنَ يجتزنَ الطريـ
قَ ودارُ “سَعْدٍ” قَصْدُهنهْ
يَمشِينَ في كَـنـَفِ الوقـا
رِ وقد أَبَنَّ شُعورهنهْ
وإذا بجيش مُقبلٍ
والخيلُ مطلقة الأعنهْ
وإذا الجنودُ سُــيوفها
قد صُوِّبَتْ لِنُحُورهِنَّهْ
وإذا المدافعُ والبنا
دِقُ والصوارمُ والأسِنَّهْ
والخيلُ والفرسانُ قدْ
ضربت نِطاقاً حولهنهْ
والوردُ والريحانُ في
ذاك النهار سلاحهنهْ
فتطاحن الجيشان سَا
عاتٍ تشيبُ لها الأجِنهْ
ثم انهزمْنَ مُشَـتَّـتَا
تِ الشمْل نحو قُصورهنَّـهْ
فليَهْنَإِ الجيشُ الفخـو
رُ بنصرهِ وبكســــــرهنَّهْ
ثم يسترسل عارف حجاوي في الحديث قائلاً إن قصيدة “حافظ” هذه لاشك وصلت الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، من خلال الصحف المصرية التي كانت تصل آنذاك فلسطين – حررها الله من يد العداة المغتصبين – والتي كانت محل اهتمام من أدباء ذلك القطر الجريح. وقد قال إبراهيم طوقان قصيدته هذه وهو يتعالج في المستشفى … يبدأها بذكر الحَمام ليتخلص بمهارة إلى ذكر الممرضات، وقد حذفت صدرها إلا المطلع للدلالة عليها، خوف الإطالة والملل
بيض الحمائم حسبهنهْ
أني أرددُ سجعهنهْ
المُحسناتُ إلى المري
ضِ غدونَ أشباهاً لَهُـنَّهْ
الروضُ كالمستشفيا
تِ دواؤها إيناسهنهْ
ما الكهرباء وطِبها
بِأجَلَّ مِن نَظَـراتِهِنَّهْ
يشفي العليلَ عناؤهنّ
وعطفهنّ ولطفهنّهْ
مُرُّ الدواءِ بِـفِـيكَ حُلْ
وٌ مِن عذوبة نُطقهنهْ
مهلاً فعندي فارقٌ
بين الحَمامِ وبَـيْـنَـهُـنَّهْ
فلربما انقطع الحَما
ئِمُ في الدُّجى عن شَدْوِهِنَّهْ
أما جميلُ المُحْسِنا
تِ ففي النهارِ وفي الدُّجُـنَّـهْ
وما دام الحديث جرَّنا إلى أدب “الممرضات” فلا مناص من التعريج على بعض ما قاله أدباء المنكب البرزخي من ذلك، بدءًا بقطعة شهيرة ظريفة لابن خلدوننا العلامة الشاعر المختار بن حامدن “التَّاهْ علما” قالها في حق ممرضة فرنسية كانت تعالجه:
مدت إلي يدَها
وما طلبتُ مَدَّها
وردها من واجبي
وما استطعتُ ردَّها
والحمد لله على
أن لمْ تمدَّ خدَّها
والحمد لله على
أية حالٍ بعدها
وانتقالاً من أدب الممرضات إلى أدب المصافحة، يقول الشاعر المُجيد عبدالله السالم بن المعلى خلال زيارة رسمية لدولة مصر، معتذر عن المصافحة لنساء مصريات استقبلنه خلال زيارته تلك
أصافحكن يا ” سِتاتِ” مِصْرٍ
بقلبٍ لا يدٌ عنه تنوبُ
وما ترك التصافح بالأيادي
يضر إذا تصافحت القلوبُ
جدير بالذكر أن القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية تم إغلاقه يوم 27 يناير 2023 بعد عُمرٍ حافل يزيد قليلا على 85 عاما حيث تم إطلاقه يوم 3 يناير من عام 1938م.
وقد كان لهذا القسم الإذاعي – ومنذ القديم – حضور قوي في حياة الموريتانيين، حيث أصبح الاستماع إلى برامجه طقسا ثابتا لفئات عريضة من المجتمع، فكم مستمع لِ”عالم الظهيرة” و”حصاد اليوم” و”ندوة المستمعين” والبرنامج المفتوح” و”قول على قول” والسياسة بين السائل والمجيب” وغيرها كثير؟ … ومن لا يعرف “حسن الكرمي” وماجد سرحان” و”مديحة المدفعي” و”محمد الأزرق” وسلوى جراح” ورشاد رمضان” و”محمد المسلمي” و”أيوب صديق” وحسام شبلاق” ومقدم الرياضة “افتيم قريطم” ومراسل القسم من عاصمة الوطن الحبيب “الشيخ بَكَّايْ” وأعلام آخرين تعرفنا عليهم أكثر من خلال قناة الجزيرة ك”جميل عازر” و”سامي حداد” وفيصل القاسم”، وسواهم من أسماء خالدة …
جمعتكم مباركة.
عز الدين بن ڭراي بن أحمد يورَ