تنعقدُ هذه الأيام في مدينة “أبي تلميت” المباركةِ ندوةٌ علميةٌ وثقافية بمناسبة مُرور قَرْنٍ من الزَّمن على وفاة العلَمِ السيدْ، والعلامةِ المُجددْ، والأديب الشاعر المُتفرِّدْ، والبركةِ المتوقدْ، سُلالةِ الأجلاء الأعلامْ، وعزِّ الدينِ والإسلامْ: بابَ بنِ فتى الفتيانْ وفائق الأقرانْ: الشيخ سيدي محمدْ (سِيدْنا علَماً) بن شيخِ مشايخِنا وغُرَّةِ أعْلامِنا، مَكْـمَنِ العِلْمِ والعَمَلْ، وغايةِ مَضربِ المثلْ: “الشيخ سيديا” …
أكرمْ بها سِلْسِلةً في الورَى
مثيلُها بينَ الورَى ما يُرَى
يكفيكَ شاهداً لِذا أنَّها
بينَ الورَى المَثَلُ عِندَ الورَى
يطول الكلامُ على هذه الدوحة الوارفة التي استظَلَّ ويستظلُّ أهلُ هذه الربوع بمكانتها وبركتها ومعرفتها وتقواها وجودها ولطفها وعطفها، فما تُلقى الأقلام على الطُّرُوسِ … ولكنه بقدر ما يطول يقصر، حيث إنَّ إطلاق هذا الاسم: “أهل الشيخ سيديا” له من الدلالة والرمزية في مخيلة الأفراد وذاكرة الجماعات ما لا تؤديه سطور كثيرة من الموزون والمنثور، فذِكرُهم – ولله الحمد والشكر – ما حلَّ أبداً في زاوية النكرانْ وما نسجتْ يوماً عليه عناكبُ النسيانْ،
عقِلتُ أول ما عقِلتُ على الناس في المحيط، ببساطة وعفوية، يضربون المثل فيقولون “ولوْ كانَ الشيخ سيديا”، سمعنا فيه مبكرا أن العلامة المُجددَ “بابَ” – وهو حينها صغير السِّن – أرسل بعض من جاءه للتعلم إلى العلامة محمد فال بن محمذن بن أحمد بن العاقل “بَبَّها” فأرجعهُ إليه بعدما أنشأ الأبيات التاليةَ، التي لم يتخلَّفْ ما ضمَّنه إياها مِن فراسةٍ مُشْبِهةٍ في مَن أبوه “سِيدنا” وجده “الشيخ سيديا” …
لازم الـبرَّ “بابَ” والأمَّ لالا
تُكْسَ نُوراً وهيبةً وجَلالا
لازم الغرْزَ منهُ ما دُمتَ حياً
ستراهُ في أفْقِهِ يَتَلالا
لا تلُومَنْهُ أنْ تراهُ هِلالاً
كُلُّ بَدْرٍ قد كان قَبْلُ هِلالا
ما فتئنا نسمع قول لمرابط “بَبَّها” في حق “الشيخ سِيديا” في بيتين شهيرَين
إضافة الشيخ لغير سيديا
أظنها إضافةً تعدِيَّا
وذي الإضافة اسمها لفظيهْ
وتِلك محضةٌ ومعنويهْ
ما زلنا نستحضر لقاءات وحوارات العلامة “بابَ مع كُلٍّ مِن لمرابط “بَبَّها” والعلامة الشاعر امحمد بن أحمد يورَ، مما هو سائر مشتهر لدى الجميع ….
وما زلنا ننشد قول العلامة الشاعر امحمد بن أحمد يورَ مُرحبا بمُريدٍ لجَنابهم اسمه “حمَّادِ”
أهلاً بِذي سَفَرٍ يُدْعَى بِ”حَمَّادِ”
لا يبتغِي غيْرَ تقوى اللهِ مِنْ زادِ
يَؤُمُّ كَـعْبَةَ آمالٍ يلوذُ بها
ما كانَ مِنْ حاضِرٍ مِنَّا وَمِنْ بادِ
ودَجْلَةٌ بلِسانِ الحال قائِلةٌ:
هذا الرَّشيدُ وذا المَهْدِيُّ والهادي
يا ربِّ نَوِّلْهُ ما يرجوهُ مِنْ أمَلٍ
ومِن مُرادٍ وأورادِ وأولادٍ
ما زلنا نحفظ كما يحفظ أبناء هذه الأسرة الحبيبة قول ڭرَّايْ بن أحمد يورَ في مرثيته للشيخ البركَة السيد عبدُ اللهْ بن بابَ بن الشيخ سيديا التي يقول في أولها
على البرية بالإعدام محكومُ
وكلُّ جيشٍ أمامَ الموتِ مهزومُ
ما في الحِمامِ على الأشرافِ مَنقصَةٌ
بلْ يستوي فيه معصومٌ وموصُومُ
دارتْ على ساكنِي الدنيا فوارسُهُ
فلم تَـــرُمْ ردَّها فُرسٌ ولا رُومُ
أينَ الملوكُ وما شادُوا مِن أبنيةٍ؟
فالمُلْكُ يذهبُ والبنيانُ مهدومُ
إلى أن يقول
قومٌ إذا بالغ المُغْيِي يكونُ بهِ
إغياؤهُ فَـــهْوَ منطوقٌ ومفهومُ
أولئكَ الناسُ ممدُوحونَ كلهمُ
وغيرهمْ منهُ ممدوحٌ ومذمومُ
فكلهم بالتُّـقى والعلمِ مشتهرٌ
وكلهم بالندى والحِلم موسومُ
لو سُوِّدَ الطفلُ مفطومًا على مَلإٍ
لَسُوِّدَ الطفلُ منهمْ وهْو مفطُومُ
وما زلنا وما زالوا يحفظون قوله في رثاء الشيخ البركة السيد “إبراهيم بن الشيخ سيديا” التي منها
باللهِ يا ملَكاتِ الشِّعْرِ والخُطَبِ
قُومِي فَلَبِّي النِّدا وُقِّيتِ مِنْ عَطَبِ
قُومِي فَخَلِّي القوافِي مِنْكِ ذاهِبَةً
فَهذهِ فُرصةٌ غرَّاءُ كالذَّهَبِ
أما شَعَرتِ بِخَطْبِ مُؤْسِفٍ؟ فَحَرٍ
في ذلكَ الخَطْبِ صَوْغُ الشِّعْرِ والخُطَبِ
ذِكْرُ المَحاسنِ معهودٌ بلا سَبَبٍ
في الشعرِ أحْرَى إذا ما كانَ ذا سبَبِ
وَلَّى سَمِيُّ خليلِ اللهِ سامِيةً
أفعالهُ في المعالي عاليَ الرُّتَبِ
قَد انقضَى عُمْرُهُ ملآنَ مِنْ قُرَبٍ
يا حبَّذا عُمْرُهُ المَعْمُورُ بالقُرَبِ
وَلَّى فخَلَّى إهابَ الصَّبْر مُلتَهِباً
فما ترى مِن إهابٍ غيرِ مُلْتَهِبِ
حِبْـــــــرٌ بهِ ظلَّتِ الأنوارُ ساطِعةً
كالبدرِ والشَّمسِ، لا كالشُّهْبِ والشُّهُبِ
إلى أن يقول بعد أبيات عديدة …
وباركَ اللهُ في الأهلينَ مِن عَصَبٍ
فَحُبُّهمْ حَلَّ في لَحْمِي وفي عَصَبِي
قومٌ بَنَى لهمُ في المَجْدِ أوَّلُهمْ
ما ليسَ يُعْرِبُ عنهُ المُفْلِقُ العَربِي
أئمةٌ في المعالِي قادَةُ نُجُبٌ،
نفسِي فداءٌ لهمْ مِنْ قادَةٍ نُجُبِ
فالشيخُ “سِيدِيَّ” قُطْبٌ لا مثيلَ لهُ،
و”بابَ” بابُ التُّقى والعِلْمِ والأدَبِ
يا من تُريدُ قياسَ الأكْرَمينَ بِــــهِمْ
مَهْلاً! فَفِي الخَمْرِ مَعْنًى ليسَ في العِنَبِ
فزادهمْ شَرَفاً رَبِّي على شَرَفٍ
وباركَ اللهُ فيهمْ آخِرَ الحِقَبِ
كما لا نفتأ نُنشد فنستحسن مرثية العلامة الشاعر “بابَ” للعلامَتين الشاعريَن: محمد فالْ “بَبَّها” وعبد الله ابنَي محمذن بن أحمد بن العاقِلْ المتوفيَين يوم عرفةَ من عام 1334هـــــــــــ/1916م التي يقول فيها بمنتهى الصدق والجزالة والرصانة
ليسَ الكِرامُ على الرَّدى بِحرامِ
يعْتامُهُمْ في الحِلِّ والإحْرامِ
وتَرحُّلُ الأقوامِ أمرٌ لازمٌ
دأبُ الزَّمانِ ترحُّلُ الأقوامِ
ذهبَ الإمامُ مُحمَّدٌ وقرينُهُ
عبدُ الإلهِ المُرتضى بِسَلامِ
مُتحَلّيَينِ بِحَلْيِ كلِّ فضيلةٍ
مُتخلِّيَينِ عنِ الخَنَا والذّامِ
يرضى بهَديهِمَا الأنامُ ويقتفِي
أثرَيْهِما في الحَلِّ والإبرامِ
لكنهُ مِمَّا يُعــزِّي مَعْشرًا
حَلُّوا مِنَ الإسلامِ دارَ مُقامِ
(خطبٌ أجلُّ أناخَ بالإسلامِ
بين النُّخيل ومعْقدِ الآطامِ)
والشأنُ أنَّهُمَا – وإنْ رُزِئ الورَى –
حَلَّا مِنَ الرحْمنِ ذي الإكرامِ
في أكثرِ الأيَّامِ نازِلَ رحْمةٍ
مُتجاوِزًا عن جُملةِ الآثامِ
هذا وبُورِكَ بعدُ فِي خلَفيهِمَا
والبيتِ أجْمعَ آخرَ الأيامِ
ما زلنا نرى ملامحَ تلكِ العلاقةِ الضاربة في التاريخ والتواصل ذهاباً وإياباً بين “إڭيدي” و”آمِشتيلْ” في قول “سيدنا” مضمناً بيت العلامة الشاعر محمذن بن أحمد بن العاقل في مدحه الشهير للسَّعيدِيِّين اليداليين
آلَى الزمانُ وأنَّى يحنثِ الزمنُ
أنْ لا يجُودَ بِندبٍ صوتُهُ حسَنُ
كما يُرَدِّدُ “ميلودٌ” على مهَلٍ
“ذاكَ المنارُ وقد لاحَتْ بهِ دِمَنُ”
ونراها في فقرة من نظمه لِ”هزليات أولاد ديمان” نسبَ أفرادَها لِمَن صدرتْ منهُ بأسلوب لَبِقٍ أنيق …
واقتَبَسَ الحِبْرُ المُكاشَفُ الأبِي
مِنْ قولهِ سبحانهُ: “اغْفِرْ لِأبِي”
وقائلٌ في أبِهِ الشَّيخِ الوَلِي:
“ليسَ لهُ توجُّهٌ لِلإبِلِ”
“والشيخُ دونَ المبلَغِ المَرُومِ
كَمِثلِ آفِرْجٍ بلا قَدُومِ”
وهذه الأقوالُ عندَ العاقلِ
يبدُو عليها وسْمُ أهلِ العاقلِ
وما زلنا نراها جليةً في رسالةٍ، تُسَدُّ دونَ مثلها الأقفالُ، كان كتبها القاضي السيد “إسماعيل بن بابَ” بمناسبة وفاة القاضي محمذن بن محمد فال “امَّيَيْ”، وهي عندنا محفوظة بالخط الهِلالي الجميل لابن أخيه السيد إسحاق بن محمد بن بابَ بن الشيخ سيديا …
ومما أخبرني به شيخنا العلامة الوَرِع الصالح محمد بابَ بن سيد بابَ – أطال الله بقاءه – أنه رأى في المنام جده أمحمد بن أحمد يورَ، وتحدثا في أشياء منها أن لمرابط امحمدْ قال له: “طريقتي نَصْرٌ وشيخي الشيخ سيديا والشيخ لِفْظِيلْ … “،
أتيحت لي – قبل نحو سنةٍ ونصف _ فرصةُ الالتقاء بالسيد الوزيرْ والمُدير الخبيرْ عبد الله بن سُليمان بن بابَ خلال سَفَرٍ تيامنتُ به وأنشدتُ فيه
جنيتُ مِنْ يُمْنِ “آلِ الشيخِ” في سَفَرِ
ما ليسَ في حَضَرٍ يجنيهِ ذو حَضَرِ
جنيتُ في سَفَرٍ “عبدُ الإلهِ” بهِ
ما كانَ فيهِ مرادُ السمعِ والبَصَرِ
وَفيهِ ما لستُ في الأشعارِ أذكرهُ
“فَظُنَّ خيراً ولا تسألْ عنِ الخَبَرِ”
لقد ظفرتُ بعَينِ المَجدِ صفوتهِ
وواجدُ العينِ لا يلوي على الأثرِ
لا زلتِ – دوحةَ آلِ الشيخِ – طائِلَةً
ما كانَ في الأرضِ مِنْ دَوْحٍ ومِنْ شَجَرِ
وما هذه إلا عُجالة من كثير كثير يناسب ذكره في هذا المقام، وينشد حالي والجميع هنا قول الوالد رحمة الله عليه في آخر مرثيته المتقدمة للشيخ عبدُ اللهْ
أُهدِي إلى حضرةٍ منكُمْ مقدسةٍ
بِكرًا عليها احترامِي القومَ مَرقُومُ
ومَهرُها دعوةٌ للقلبِ نافعةٌ
يحوي بها الفوزَ مهمومٌ ومغمومُ
ثم الصلاةُ على المختارِ يشفعُها
أسنى سلامٍ بهِ المنظومُ مختُومُ
عزالدين بن ڭراي بن أحمد يورَ