أعلن السرد الموريتاني منذ أول رواية كتبت باللغة العربية عام 1981 (نعني هنا الأسماء المتغيرة لأحمد ولد عبد القادر)، عن تشبثه بخيارات الكتابة التاريخية، وإن لم تخل هذه الزاوية من إسقاطات ذات علاقة بالواقع المعاصر للمجتمع، ذلك أن معظم المجتمع الموريتاني البدوي، والذي اكتشف لتوه حياة المدينة ومنجزات الحضارة، لم يكن قد عرف تغيرات اجتماعية جذرية بعد، يمكن أن تشكل مادة ثرية للسرد الروائي، أو أن هذه التغيرات لم تكن بلغت مستوى من النضج لمعرفة مآلاتها، كونها مازالت في طور الصيرورة والتشكل، وكون الكاتب ذاته كان جزء من تلك الصيرورة، فلم يكن هذا الأمر يسمح له بإعادة إنتاج هذه التحولات أو إلقاء الضوء عليها أو حتى التأريخ لها، ومن هنا كان خيار الغوص في التأريخ موضوعيا ومتاحا، كنوع من قراءة للمجتمع بأثر رجعي.
ظهرت بعد روايتي أحمدو ولد عبد القادر (الأسماء المتغيرة ثم القبر المجهول والأصول)، روايات جديدة بعد فترة زمنية طويلة نسبيا، ذلك أن الزخم الروائي، في حيز تسيطر عليه الذائقة الشعرية، لم يكن بتلك الكثافة، إضافة إلى غياب تراث سردي يمكن التحاور معه والبناء عليه في السياق الموريتاني، فإذا كانت أولى الروايات العربية قد كتبت حوالي 1913 (زينب، لمحمد حسين هيكل) فإنه سيبدو جليا مدى تأخر ظهور الكتابة السردية في البلد، والتي لم تظهر إلا بعد سبعة عقود إلا ثلاث سنوات من هذا التاريخ.
ولعله بالإمكان الحديث عن بعض الأسباب الموضوعية التي أدت إلى تأخر ظهور السرد في موريتانيا، من أهمها الطابع البدوي والريفي للمجتمع الموريتاني ما قبل الدولة، ومن المعروف لدى دارسي الفن الروائي أنه يرتبط بنمط العيش المديني، وما يطبعه من تشعب في الحياة ومن صراعات يومية، فردية وجماعية، ومن خيارات متعددة للفرد الذي ليست له خيارات تذكر تقريبا في ظل النمط العشائري والقبلي التقليدي، حيث يسود الصوت الواحد واللون الواحد، وحيث التشابه ألذي يقترب من التطابق هو السيمة المسيطرة.
ومن بين هذه الأسباب أيضا التي ساهمت في تأخر ظهور السرد، هو سيطرة الطابع النظمي على ما سواه من أنماط التعبير الأدبي، لدرجة أن المواد الفقهية التي تدرس في الكتاتيب القديمة، كان يتم نظمها من أجل تسهيل حفظها، ومن هنا تعودت الأذن الموريتانية على الإيقاع والموسيقى المجلجلة، ومن هنا أيضا كانت صعوبة استنبات أجناس أدبية مثل قصيدة التفعيلة أو “الشعر الحر”، وكذلك قصيدة النثر والرواية أيضا، بل وحتى القصيدة العمودية النيوكلاسيكية.
إلا أنه رغم كل ذلك، فإننا يمكن أن نؤصل للسرد أيضا في أنماط أدبية كانت سائدة من الثقافة الشفهية، مثل حكايات الجدات والأيقونات الشعبية وبعض الأحاجي، التي كان يتعاطاها الموريتاني في صحرائه المفتوحة ذات الليل المفضض بالقمر والنجوم المتناثرة على صفحة السماء، وما يبعث ذلك في النفس من شهوة للتخيل والحكي، ولعل هذا ما ساعد روائيا عظيما مثل إبراهيم الكوني في الخروج على القاعدة التي تربط الرواية بالمدينة، وكتب رواية الصحراء كمشروع شخصي.
هناك روايات موريتانية خرجت عن قسرية العودة إلى الماضي بالشكل التقليدي، عبر الاستفادة من المنجزات الحديثة وحتى “المستقبلية” لتطوير تقنية سردية تمزج بين الماضي والمستقبل، مثلما حصل في “مدينة الرياح” للروائي موسى ولد ابنو، لكنها أيضا لم تحتك بالواقع بشكل مباشر، وإن كانت القراءة المستقبلية التي قدمتها استنادا إلى صيرورة الماضي وتفاعلاته، يمكن أن نستشف منها أن هذه المآلات ليس سوى الواقع مستقبلا.
غير أن جيلا جديدا من الروائيين استطاع أن يتشبع بالواقع المعاصر للمجتمع الموريتاني، وأن يقدم لنا عملا روائيا، يفكك هذا الواقع ويؤرخ له في آن، ويعمل مبضعه في تفاصيل التركيبة الاجتماعية المعقدة إثنيا وثقافيا، وكذلك في الصراعات الاقتصادية والاجتماعية، والتي تستغل هذا الثراء لمآرب شخصية مهما كانت مدمرة، ولو اقنتضى ذلك الأكل من شجرة التعايش السلمي المحرمة، وإحداث شروخ اجتماعية ستحتاج وقتا طويلا لتندمل، كما أنها أضاعت المزيد من الوقت في ترميمها، بينما كان يمكن الاستفادة من هذا الوقت في إنجازات حضارية تفيد البلد وترتقي بإنسانه.
إنه العمل الذي يكشف كيف يتم استغلال السلطة، وتجيير السياسة ومشايع المجتمع، من أجل أهداف إيديولوجية وشخصية وجماعاتية ضيقة، في تناقض تام مع مفهوم الدولة المدنية التي تسع الجميع، وأنا أتحدث هنا عن رواية “تيرانجا” لمحمد عبد اللطيف، والتي أعتبرها مرحلة فاصلة في تاريخ الرواية “الموريتانية الممرتنة” بشكل خالص.
كما أن رواية “دار السلام” للربيع ولد إدومُ تندرج في هذا الاتجاه الجديد في الرواية الموريتانية، الذي ينحو بشكل لاهوادة فيه إلى “مرتنة” الرواية، بالإضافة إلى بعض الأعمال الأخرى.
وفي العموم، فإنه يمكن أن نميز ثلاثة اتجاهات في الرواية الموريتانية المكتوبة باللغة العربية.
الأول يمكن أن نطلق عليه” الرواية التاريخية” المحضة مثل روايات أحمدو ولد عبد القادر.
الاتجاه الثاني هو الرواية التي تمزج في فنياتها واسلوبها بين التاريخ والخيال العلمي والمستقبليات مثل روايات موسى ولد ابنو وأحمدو ولد الحافظ وأحمد ولد إسلمو.
والاتجاه الثالث هو ما أسميه “الرواية الممرتنة” ونجد فيه روايات محمد عبد اللطيف والربيع ولد إدومُ.