كان الموت المفاجئ لأحد أقاربي، بالإضافة إلى إقامتي القصيرة في القرية، هو الذي تسبب في نسياني لذكرى رحيل الإمام بداه. لقد شجعني الأصدقاء الذين ذكروني بهذه المناسبة على إعادة نشر تأبينه الذي نُشر في صحيفة “بلادي” قبل ثلاث سنوات. والآن أفعل ذلك بفرح، تدفعني قناعة بأنه يتعين على كل واحد منا (لا سيما عندما يتربص بنا الدم والجوع والعطش) ، واجب النهل من المصدر الذي لا ينضب والذي كان يمثله (بداه ولد البصيري)، تمثلا بالآية الكريمة (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”، التي استحضرها الإمام بداه في أبريل 1991 أثناء خطبته في عيد الفطر. كان يجلس أمامه يومها، حانيا رأسه، الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع، الذي بدا منغمسا في الأشكال الغامضة والمعقدة التي انخرط في رسمها بعصا بين أصابعه على الرمال، محاولا ربما ان ينسى أن كلام الإمام كان موجها إليه بالدرجة الأولى.
كانت مجموعة من النسوة قبل ذلك بأيام قد زرن الإمام بداه. وهن أرامل أو أعضاء في “لجنة التضامن” أردن إطلاعه على حقيقة المذابح التي راح ضحيتها جنود من الأفارقة السود، بالإضافة إلى سعيهن لطلب رأيه بخصوص أحكام الشريعة ذات الصلة بفترة الترمل. وتحت وطأة حكاياتهن المروعة بشأن استشهاد أبناء، أو أخ، أو زوج مات تحت التعذيب أو الشنق، أو حتى دُفن حيا، امتلكت قشعريرة البدن الإمام، وغمرت الدموع ملامح وجهه. وما جعل المشهد أكثر ضراوة هو تنهدات النسوة، التي بدت أصداء لجوقة مأساة غابرة، تضرب بأطناب ظلامها على الحاضر.
صحيح أن أي كاميرا لم تسجل هذا المشهد (حينها)، ولكن ذلك ليس ذا بال؛ حيث إن دموع الإمام بداه ستظل، وإلى الأبد، أثقل وزنا بكثير، من صلاة الجنرال محمد ولد عبد العزيز في كيهيدي (على أرواح الضحايا).
لقد أحدث التاريخ رجة مفاجئة في حياة بداه ولد البوصيري، بعد ما يناهز ربع قرن من الإمامة الرصينة، وذلك تحت باصرة العديد من قادة الحركة الوطنية الديموقراطية: محمد ولد مولود ووان بيران ولو غورمو والراحل محمدي ولد اعبيد الرحمن. كان ذلك عام 1987، وكانت البلاد، التي تمزقها التذمرات العرقية، تعيش لحظات من التوتر العالي، وكان الأمر الأكثر اتضاحا بين الموريتانيين هو أنهم يخشون بالفعل أن الأسوأ لم يأت بعد. لقد كانت زيارة هؤلاء الرجال الأربعة للإمام بمثابة خطوة يائسة تقريبا، غير أن الكلمات التي استقبلهم بها كانت مصدر إنعاش لقلوبهم، عندما قال “شابان أفريقيان أسودان وشابان من البيظان يزورونني؛ لقد رضيت! “. لم يكتف الإمام بمشاركة اهتمام زواره بالسلم الأهلي ورغبتهم في الحفاظ على الوحدة الوطنية التي اعتبرها حيوية فقط، بل كان مملتئا بطاقة لا محدودة وبعنفوان شبابي، فقال لهم: “عندما تعصف النيران بالقرية، فإن آخر ما يهم من يتحملون المسؤولية بحق، هو من معرفة من يملك المنزل الذي يحترق”، مضيفا: “لستم أنتم الذين تطلبون مساعدتي ، بل أنتم من جئتم لمساعدتي في أداء مهمتي كمسلم وكإمام ، والتي تتلخص في التوحيد بدل التفريق، وفي التهدئة بدل التجييش. شكرا لقدومكم وتذكيركم إياي”.
بعد هذا الاجتماع، تذكر الرفاق الذين نسوني بأعجوبة وجودي، ودعوني إلى الاجتماع الأول الذي عقد في منزل الإمام. كانت هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها. تفاجأت في البداية وشعرت بخيبة أمل، إذ لم يتطابق الرجل مع الصورة التي كانت لدي عنه. لم يكن مهندما، ولم يكن يتحدث أو يتصرف كما يفترض أن تفعل شخصية دينية بمكانته. لم يكن متلفعا في دراعة فاخرة، ولم يبد بهيئة المعلم الذي يعطي دروسا. كان يرتدي قفطانا متقشفا مبقعا وبألوان باهتة، وكان منشغلا بتقديم “الزريك” والشاي، متحدثا بكلمات بسيطة. لم يلق يومها خطبا صاخبة على أسماعنا، بل أعطى أمثلة مستمدة من التاريخ المحسوس لهذا البلد، ومن حياة مجتمعاته، في تنوعها ووحدتها (في آن).
ولطالما كان التوفيق بين أفعال المرء وأقواله هو الجزء الأصعب (من المعادلة)، غير أن الإمام بداه لم يتخل البتة عن مسؤوليته كإنسان يحترم حقوق إخوانه من بني البشر ومواطن متمسك بالوحدة الوطنية (من جهة)، وكشخصية دينية مستقلة عن أي سلطة سياسية (من جهة أخرى).
وإذا كان الإمام بداه اختار المنفى لبعض الوقت في المملكة العربية السعودية، فربما كان من أجل استعداد أفضل للعيش بعيدا في منفاه في هذا العالم السفلي، عبر الابتعاد عن فشلنا الذريع في قدرتنا على تمثل الصفات التي كان عليها، والتي تجسدت في البساطة غير المصطنعة، بل العفوية كدقات القلب، وإرادة الخضوع لله وحده. الابتسامة (الصادقة) على الوجه ليس كقناع للنفاق، وإنما كانعكاس لجمال الروح. النظرة المضيئة التي بمثابة دعوة إلى الأخوة. الألفة الفورية التي لا تحط من قدرك أبدا، بل ترفعك دائما أعلى مما أنت عليه.
كان بداه ولد البوصيري رجل إسلام بالمعنى الأعمق للكلمة والأخصب والأرسخ أخوة. كان رجلا مستقيما وإنسانا لوجه الإنسانية.
كتب ونشر هذا المقال قبل ثماني سنوات من طرف المرحوم عبد الله سيري با عام 2014، ترجمتُه بمناسبة مرور عام على رحيل الكاتب.