على تلك الأرض بحجارتها الحمراء في ولاية لعصابة، وفي مدينة كرو بالضبط، بعد أربع سنوات من عمر الدولة الموريتانية (1964)، وُلد الشاعر والناقد والمفكر محمد ولد عبدي.

حفِظ القرآن وتشبع من منابع التراث حفظا وتمثلا، وواصل مشوارا دراسيا مكللا بالنجاح؛ حيث حصل تباعا، على الإجازة في اللغة العربية من جامعة نواكشوط، وعلى الماجستير ثم الدكتوراه في النقد الحديث من جامعة محمد الخامس في الرباط.

عَرف الراحل مشوارا مهنيا ثريا داخل البلاد وخارجها؛ لا سيما في الإمارات العربية المتحدة، حيث استقر قرابة عشرين عاما. غير أن ذلك لم يشغله عن تكريس نفسه شاعرا وناقدا ومفكرا، خدم بلده وطبع الأجيال التي جاءت بعده بطابعه، عبر مؤلفات عديدة في مجالات شتى.

شعريا، انتمى للحداثة الشعرية في نصوصه، مبشرا بضروب من القول الشعري تعبر بأمانة عن التغيرات الكبرى التي عرفها المجتمع الموريتاني، وباحثا عن صوته الخاص مستفيدا من التحولات المعرفية التي عرفتها البشرية برمتها، موزعا قصائده بين العمودي المطعم بنفَس حداثي واضح، وبين شعر التفعيلة الحامل لبصمة موريتانية واعية بمفرداتها وبخصوصيتها الثقافية.

وبوصفه ناقدا، نظّر -ضمن آخرين من جيله- لمفهوم “مَرْتنة” الشعر الموريتاني عبر استثمار التاريخ الثقافي الثري لهذه الأرض، والخروج من جلباب التقليد واستيراد الرموز والأساطير التي لا تنتمي إلى الفضاء المعرفي للمتلقي ولا إلى الفضاء الثقافي للمجتمع، وكرّس نصوصه الشعرية للبرهنة على إمكانية تجسيد هذا الطرح للعبور به من المستوى النظري إلى الواقعي المطبّق.

وبوصفه مفكرا، فقد كان أول موريتاني كتب، بل من أوائل من كتبوا عربيا، في مجال النقد الثقافي وتفكيك البنى الفكرية والاجتماعية، وقراءة النصوص الأدبية من هذا المنظور، سبيلا إلى فهم أعمق للجماليات التي تستبطن شبكة معارف وخطابات مضمرة تتوسل بالجمالي وتختبئ في ثنايا الفني، حاملة في تفاصيلها المقولات المركزية، التي ينبني عليها النسق الكلي للمجتمع، والذي تعمل الأنساق الجزئية، نصية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية، على ديمومته وتمريره بطرق ذكية ومتحايلة.

بعد مرور تسع سنوات على رحيل الدكتور محمد ولد عبدي يوم 28 دجنبر من عام 2014، فإن ذكره باق ما بقي إرثه المعرفي والإبداعي، ومساهمته الجليلة في خدمة بلده ومجتمعه والبشرية برمتها.

رحمه الله وإنا لله وإنا إليه راجعون.