بقلم المرحوم/ مُحمد بن أحمد بن الميدَّاح
ترجمة مِن الفرنسية إلى العربية
(الجزء الرابع وقبل الأخير)
مِن هذا المُلتقى والمعقل الثقافي الكبير، ما زلت أحتفظ في الذاكرة بأسماء ووجوه بعض الشخصيات الذين تجاوزت شهرتهم الثقافية والاجتماعية حدود دائرة الترارزة بكثير …
ما زلت أتذكر تماماً القاضي محمذن بن محمد فال المعروف بلقبه “اِمَّيَيْ”، كان شيخًا جميلاً، مُشرق الوجه، أقرب إلى التحضر، وكانت خيمته الفخمة المنصوبة قرب منزل إسمنتي، تَعجُّ على الدوام بالزوار القادمين من شتى أنحاء المنطقة ومن خارجها، لم تكن مسؤولياته الدينية والاجتماعية الجسيمة تشغله عن الاعتناء بتلك الجموع المتنوعة من الزوار …
في محيط خيمته وعلى بُعد أمتار قليلة منها، كان بالإمكان شم رائحة عطور فاخرة، تفضل كثيراً “دانكوما” و”كيكي 44″، و”ماتي كَيْ”، و”جَولِي اسْوار” و”هيليوتروب بلان” وغيرها من العطور التي كانت شائعة حينها في الأوساط الأرستقراطية …
اعتدت أنا وأصدقائي أن نحوم حول تلك الخيمة لنُنقّيَ ملابسنا من روائح متعددة التصقت بنا بعد حصة دراسية في القاعة الصغيرة التي كنا نُحشَر فيها كما في عُلبة السَّردين …
وذات يوم، وبينما كنت ألعب مع بعض الأطفال بالقرب من دكان “أحمدو بمبَ”، أرسل القاضي من يُناديني. وعندما جئت إليه، وأنا في مُنتهى الخجَل والتوتر، وضع يده على رأسي وأدخل في جيبي أول مئة افرنكٍ أمتلكها في حياتي، وهمس لي أنني لست غريبًا في ذلك المنزل، كانت بجانبه زوجته الشهيرة “منت باهنينَ”، التي حَيّـتـني بحرارة وطلبت مني أن أبلغ سلامها لجدتي المعلومة.
لقد أدركت لاحقًا – بل لاحقا جدًا – القيمة التاريخية والثقافية والأدبية لهتين الشخصيتَين الاستثنائيتَين …
عندما ودّعت القاضي، كان فكري قد امتلأ بمشاريعَ صغيرة بدت لي سابقًا في حيز المستحيل، وقد وجدت فجأة تمويلها دون تخطيط مسبق، قفزت من فوق الحائط متخلصًا من رفاقي في اللعب، وانطلقت مباشرة نحو دُكان “امَّيلِيد”، الواقع قُرب البئر في غرب القرية، لأتولى إدارة “ثروتي” دون تقاسم وفي هدوء تام …
أتذكر أنني رافقت جدتي “عيشَ بنت مانُو” مرتين لِزيارة الولي المختار ولد محمودن، الذي كانت شهرته الأسطورية معروفة حتى في نواحي أبي تلميت، وخاصة في المُخيم الذي كنت أعيش فيه. كان رجلاً مسنًا، متوسط القامة، ودودًا، بسيطًا، و غير ذي تكلف، كان يحظى بوضوح بإعجاب وتقدير المحيطين به، وكانت خيمته الواسعة تعج بالزوار من مُختلف الأطياف …
مِن بين الشخصيات الأكثر احترامًا في القرية، يبرز أحمد بن الفُظَيل، كان المعلمون يُوصوننا بعدم اللعب بالقرب من خيمته خشية إزعاجه، إذ كان مُتقدماً في العُمر.
أتذكر يوم وفاته جيدًا، كنت حينها في الصف الثاني من المرحلة الابتدائية، وقد أعلنت المدرسة يومًا للحِداد عليه، لقد كنت من القلائل في “ابير التورس” – إن لم أكن الوحيد – الذين لم يشعروا بحزن كبير لرحيل هذه الشخصية البارزة …
كان هناك أيضًا شيخ آخر، يُعرَّف بأنه ابن أحد رفقاء وتلاميذ امحمد بن أحمد يورَ. وكان يُدعى “ول والد”، وكان أطفال القرية يتعلمون عنده القرآن الكريم، إلى جانب الذهاب للمدرسة. وكانوا يقولون إنه سريع اللجوء إلى العصا …
لا تزال ماثلة أمام عيني صورة “أحمدو بن التاه” وهو يعتلي مطيتَه الجميلة. كان شيخًا وسيمًا، لحيته مصبوغة باللون الأزرق نتيجة الإفراط في استخدام “النيلة”. وكان يلُفّ عنقه بعمامة جديدة من قماش “سافانا”، تُخفي بالكاد مجموعة كبيرة من التمائم موضوعة بإتقان داخل أغطية جلدية.
أود هنا أن أقوم بذكرٍ خاصٍ لمُنشد القرية الودود جدًا ” بَدِّي” وصاحب أنشودته الشهيرة: “هُبُّولو امباركه اندايْ، آكْ سنانْ، آكْ منانْ، آكْ لانْ!” …
كان شخصاً مسالمًا وممتعًا، يجوب شوارع القرية مرددًا مدائح نبوية بلغة عربية تتخللها تعبيرات وُولفية… وكان الناس يرونه شخصية صوفية غامضة تتجافى عن “الظهور”، كما يُقال في مصطلحات التصوف الموريتاني.
في “آسكيرَه”، تمكنت في النهاية من التعرف على الجميع، مما خفَّف قليلًا من خجلي الفطري.
كنتُ غالبًا ما أزور خيمة العميد أحمدو بابَ بن امحمد بن أحمد يورَ، كان شيخًا متقدمًا في السن، وكان مجالُه، الذي يشغل مساحة واسعة في وسط الحي، يُثير الإعجاب بنظافته وتنظيم أثاثه… كانت ساحته تُنظَّف باستمرار على يد امرأة فاضلة تُدعى “بَيَّ بنت اجْمَيِّعْ”، كانت بارعة في فن غربلة الرمال واستخراج قِطع الفحم وبقايا الخشب البالي …
كانت “بَيَّ بنت اجْمَيِّعْ” سلطوية الطباع، فلم يكن أي طفل في القرية ليجرؤ على إظهار أي شكل من أشكال قلة الأدب تجاهها أو تجاه أي شخص آخر بوجودها، ولم يكن ذلك متأتياً من فراغ، فقد كانت طبيبة الأسنان في القرية.
كانت تتولى عمليات قلع الأسنان طواعيةً، وبنفس الحماس، سواء كان هدفها التخفيف عن طفل يتألم أم معاقبته لسوء سلوكه تجاه والديه أو أي شخص بالغ، كانت أداةُ “بَيَّ” سكيناً قديمًا غير معقم، أما كرسي عملها فلم يكن وقتها سوى صدر “الضحية” المعنية!
لا أزال أتذكر حين قدّمت لي مساعدتها ذات مرة، فقد كنتُ أعاني من أنياب لبنية عنيدة بدأت تعيق نموّ أسناني بشكل طبيعي… وفي ذلك اليوم، لم تصمد تلك الأنياب أمام احترافية “طبيبة الأسنان”، لقد سال الكثير من الدماء، ولكن لا بأس!
كان شمَّاد بن امحمد بن أحمد يورَ هو الشخصية الثانية الأبرز في “آسكيره”، تجده في الغالب إما يقرأ أو ينفض الغبار عن كتبه، وكان من القلائل في القرية الذين يمتلكون جهاز راديو من نوع “كَرَيْرْ”، يحتل مكانة بارزة في خيمته التي كان “شدَّاد” يشرف على نظامها بكل اعتناء …
كان يقال إن محطاته المفضلة هي “صوت العرب” من القاهرة، وإذاعة طنجة، التي كانت حينها تخوض في جدل مستمرٍ مع إذاعة نواكشوط حول استقلال موريتانيا، الذي كان محلّ خلاف مع المملكة المغربية …
مِن بين الشخصيات الرمزية في “آسكيره”، لا مناصَ من ذكر “عيشَ سي”، وهي امرأة طويلة القامة، ممتلئة الجسد، كانت تعيش في كنف أهل أحمد يورَ، لم تكن في الأصل من “ابير التورس”، لكن حين تعرَّفت عليها كانت شخصية أساسية في المشهد المحلي، خاصة بالنسبة للأطفال الذين كانت تبيع لهم بعض الأشياء الصغيرة آنذاك، ليست لدي أي فكرة عمّا صار إليه أمرها بعد ذلك …
يتواصل …
عز الدين بن ڭراي بن أحمد يورَ