يشكّل الصراع النووي بين إيران وإسرائيل إحدى أخطر القضايا الجيوسياسية في الشرق الأوسط والعالم. فبعيدًا عن كونه مجرّد خلاف ثنائي، يتداخل فيه البعد الأمني والتقني والديني والاستراتيجي، ويشمل أطرافًا دولية كبرى. فهو صراع بين مشروعين متناقضين:
مشروع إيراني يسعى إلى تثبيت مكانته الإقليمية عبر امتلاك التكنولوجيا النووية.
ومشروع إسرائيلي يعتبر أي قدرة نووية إيرانية تهديدًا وجوديًا يجب منعه بأي وسيلة ممكنة.
أولًا: البرنامج النووي الإيراني
بدأت إيران برنامجها النووي في خمسينيات القرن الماضي بدعم أمريكي ضمن مبادرة “الذرة من أجل السلام”، لكنه تطوّر بشكل متسارع بعد الثورة الإسلامية عام 1979، خاصة خلال العقدين الأخيرين.
تؤكد طهران أن برنامجها ذو طابع سلمي، ويهدف إلى إنتاج الطاقة الكهربائية وتطبيقات طبية وصناعية.
إلا أن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) كشفت عن وجود نشاطات غير مصرّح بها في منشآت مثل نطنز (Natanz)، فوردو (Fordow)، وآراك (Arak).
قامت إيران بتخصيب اليورانيوم (Uranium) بنسبة بلغت 60%، بينما يُعدّ إنتاج السلاح النووي ممكنًا عند تجاوز نسبة 90%. كما طوّرت أجهزة الطرد المركزي (Centrifuge) المتقدمة من طرازي IR-4 وIR-6، وراكمت مخزونًا يُعتقد أنه يكفي لإنتاج سلاح نووي في فترة وجيزة، وفقًا لتقديرات بعض الخبراء الدوليين.
ثانيًا: القدرات النووية الإسرائيلية
بعكس إيران، لم توقّع إسرائيل على معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT)، وتتّبع سياسة “الغموض النووي (Ambiguïté stratégique)، حيث لا تؤكد ولا تنفي امتلاكها للسلاح النووي.
مع ذلك، تشير تقارير صادرة عن معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI) إلى أن إسرائيل تمتلك ما بين 80 إلى 200 رأس نووي (Tête nucléaire)، طُوّرت في مفاعل ديمونا (Dimona) الواقع في صحراء النقب.
تتمتع إسرائيل بما يُعرف بـ القدرة الثلاثية للإطلاق (Triade nucléaire)، التي تشمل:
طائرات مقاتلة (مثل F-35)
صواريخ باليستية بعيدة المدى (Jericho III)
غواصات قادرة على إطلاق صواريخ نووية (من طراز Dolphin)
ثالثًا: التوتر الحالي… تصعيد متسارع
يشهد الصراع بين إيران وإسرائيل حاليًا تصعيدًا غير مسبوق، يتمثّل في عدة مظاهر خطيرة:
• رفعت إيران نسبة تخصيب اليورانيوم ، مع مخزون كافٍ نظريًا لإنتاج أكثر من قنبلة نووية.
• اعتبرت إسرائيل هذا التطور تجاوزًا لخطوطها الحمراء، خاصة بعد تراجع عمليات التفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
• نُفّذت هجمات إلكترونية ومادية (يُعتقد أنها إسرائيلية) ضد مواقع نووية إيرانية مثل نطنز وأصفهان.
• سُجّلت عمليات اغتيال استهدفت علماء ومهندسين إيرانيين في المجال النووي.
فمثلاً، تم اغتيال مسعود علي محمدي، أستاذ فيزياء الجسيمات بجامعة طهران، في يناير 2010 عن طريق تفجير عبوة ناسفة وُضعت على دراجة نارية أمام منزله.
وفي مثال آخر، قُتل مصطفى أحمدي روشن، نائب مدير منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم، في يناير 2012 بواسطة قنبلة مغناطيسية لُصقت بسيارته في طهران.
هذه العمليات كانت جزءًا من ما يُعرف بـ”حرب الظل”، ويُعتقد أنها تهدف إلى إبطاء التقدم النووي الإيراني عبر استهداف العقول العلمية خلفه.
ردّت إيران بإعلان تطوير صواريخ بعيدة المدى وتأكيد جاهزيتها للرد على أي اعتداء.
رابعًا: أبعاد التهديد الحقيقي
كمتخصّصة في الفيزياء الطبية، ما يقلقني ليس مجرد التقدّم التقني الإيراني، بل انهيار الثقة، وتفكّك آليات الرقابة النووية. علما بأن الاستقرار النووي لا يتحقق إلا بوجود نظام توازن دقيق الأمر ذاته ينطبق على التوازن السياسي.
هناك انعدام واضح في التوازن بين طرف يملك سلاحًا نوويًا دون أي رقابة (إسرائيل)، وآخر يمتلك القدرة التقنية ويشعر بمحاصرة مستمرة (إيران).
تجميد أو إنهيار المفاوضات، مثل الاتفاق النووي JCPOA.
تحوّيل المنطقة إلى ساحة تنافس دولي بين الولايات المتحدة، روسيا، والصين، ما يعقّد المشهد أكثر.
خامسًا: ماذا لو وقعت الضربة؟
إسرائيل تلوّح باستمرار بتوجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية. وهناك تقارير إعلامية تحدّثت عن تدريبات واسعة النطاق تحاكي استهداف نطنز وفوردو.
لكن، من الناحية الفيزيائية، أي هجوم على منشأة نووية يُعدّ خطرًا كارثيًا، وقد يؤدي إلى:
تسرّب مواد مشعة إلى البيئة،
ضحايا بشرية نتيجة التعرّض غير المباشر،
تدويل النزاع بشكل مفاجئ، وإشعال المنطقة بالكامل.
سادسًا: القدرة لا تعني السلاح… لكنها تغيّر التوازن
في مفاهيم الأمن النووي، نُطلق على الوضع الإيراني المحتمل اسم “الردع على العتبة” (Threshold Deterrence)، أي أن دولة تملك القدرة على إنتاج سلاح نووي، لكنها لا تصنعه فعليًا.
إيران تُدرك أن هذه القدرة بحد ذاتها تشكّل ورقة ضغط وردع إقليمي. أما إسرائيل، فترى في ذلك تهديدًا لكسر احتكارها النووي، وقد يؤدي إلى سباق تسلح في المنطقة (تركيا، السعودية…).
في الختام الحديث عن الصراع بين إيران وإسرائيل دون التطرّق إلى غزة، التي تحوّلت إلى ساحة دائمة للاشتباك العسكري والتجاذب الإقليمي. فغزة ليست فقط ملفًا إنسانيًا، بل أصبحت رمزًا للمعادلات الردعية غير التقليدية في المنطقة. تدعم إيران فصائل المقاومة فيها سياسيًا وتقنيًا، بينما تعتبرها إسرائيل منصة تهديد مباشر، وتجسيدًا عمليًا لامتداد النفوذ الإيراني على حدودها. الهجمات المتكررة، والقصف المتبادل، وسقوط المدنيين، كلّها تعكس كيف أن الحسابات النووية لا تجري فقط داخل المفاعلات، بل أيضًا في أزقة مكتظة تحت الحصار.
إن استمرار المعاناة في غزة هو تذكير دائم بأن غياب التوازن الردعي الشامل، والاعتماد على العنف كأداة وحيدة، لا ينتج إلا أزمات متكررة وشعوبًا مكلومة. وكما تحتاج المنطقة إلى رقابة نووية شفافة، فهي بحاجة أيضًا إلى عدالة سياسية حقيقية توقف استخدام الجغرافيا كساحة تصفية حسابات.
الفيزياء النووية علم دقيق، محايد، يُستخدم في الشفاء و التطور الصناعي أو التدمير و القتل . لكن حين يُصبح رهينة السياسة، نفقد السيطرة. الصراع بين إيران وإسرائيل تجاوز الحسابات التقنية، وأصبح صراعًا على الهيمنة والشرعية الإقليمية.
المنطقة لا تحتاج إلى ضربة استباقية، بل إلى اتفاق جديد متعدد الأطراف، يُنهي الغموض النووي، ويخضع الجميع ( دون استثناء) الرقابة شفافة، متوازنة، وغير انتقائية.
المراجع والمصادر:
مؤسسات ودراسات نووية:
• الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) – تقارير رسمية حول الملف النووي الإيراني:
https://www.iaea.org/newscenter/focus/iran
• معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI) – بيانات الأسلحة النووية وتقديرات التسلح الإسرائيلي:
https://www.sipri.org/research/armament-and-disarmament/nuclear-weapons
• مبادرة التهديد النووي (NTI) – اتفاقية قمع أعمال الإرهاب النووي (ICSANT):
https://www.nti.org/education-center/treaties-and-regimes/international-convention-suppression-acts-nuclear-terrorism/
• Foreign Affairs – مقال تحليلي: Iran’s Nuclear Tipping Point:
https://www.foreignaffairs.com/iran/irans-nuclear-tipping-point
• مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) – تحليل حول انفجار مرفأ إيران وتأثيراته على البنية التحتية النووية والأمن الإقليمي:
https://www.csis.org/analysis/irans-port-explosion
بقلم د. زينب يعقوب الشيخ سيديا
دكتورة في الفيزياء الطبية و الحيوية و التصوير الطبي