ترجمة مِن الفرنسية إلى العربية
(الجزء الثالث)
وبعد أن بلغ مُبتغاه من عقابي، أشار إليّ بالدخول واستعادة مكاني في الفصل …
بعد العقوبة، عدتُ إلى مقعدي، وأنا في ذروة الإحباط، بحيث إني لم أحاول فهم أي شيء من الدرس، الذي كان حصة قراءة، لكل طالب فيها كتابه الخاص.
كان بعض التلاميذ يقرأ بطلاقة، سمعتهم جميعًا يتحدثون عن “توتو”، وهو اسم لم يكن يعني لي أي شيء، لأعرف لاحقًا أنه تلميذٌ أسطوري، كسول، وغير منضبط، نُسجت حوله مجموعة نصوص “مامادو وبينيتا”.
بحلول الظهيرة، توجهتُ إلى “آسكيرَه” بصحبة أخي الأكبر وتلاميذ آخرين، وكلي ذهول وعجز وارتباك. لم يفارق مشهد ذلك الصباح ذاكرتي، رغم تشجيع ونصائح رفقائي الأكبر سنا. في المنزل، انعزلت في زاوية وأطلقتُ العنان لأحلام اليقظة، التي قطعها أولئك المُطاردون …
في فترة ما بعد الظهيرة، كان عليّ العودة للقاء السيد “فالْ”، بجفافه وجفائه. وددت أن يكون في الفصل مُعلّم اللغة العربية، لكن سرعان ما خاب أملي: لم تكن دروس هذه اللغة المألوفة تستغرق سوى خمسٍ وأربعين دقيقة، بواقع ثلاث حصص أسبوعيًا… يا لها من خيبة أملٍ ! لم يكن المعلمُ المحبوب ڭراي بن أحمد يورَ مُعلّمي الرئيسي، فكان علي التعامل مع جلَّادي في صباح ذلك اليوم، بتقلبات مزاجه غير المنضبطة.
كانت الأيام الأولى صعبةً للغاية، لكن شيئًا فشيئًا، أصبحت العقوبات أقلّ، وصارت الدروس في المُتناول، وبدأت أشعر أني تلميذ مثل الآخرين، وذلك بفضل دروس التقوية التي قدّمها لي أخي الأكبر وبعض زملائه في الدراسة. وهكذا، وفي أقل من شهر، تمكنتُ من إتقان الأبجدية اللاتينية (كنتُ قبلها أعرف القراءة والكتابة باللغة العربية)، وأصبحت المقاطع الصوتية روتينًا بالنسبة لي، حتى أنني تشرفتُ بتوصيل دفاتر التمارين إلى منزل الأستاذ “فالْ” مرتين أو ثلاث مرات!
كان تحسني فعلياً، لدرجة أنه بحلول نهاية شهر يونيو، أي أقل من ثلاثة أشهر بعد صباح “الأصابع” ذاك، حصلت على المرتبة الثانية في امتحان التجاوز للصف الأعلى. لقد ملأ نجاحي الباهرُ بالفخر مشرفَ المدرسة: المختار بن المأمون، الذي كان لديه، دون أن أعلم، صلات خاصة بعائلتي. كان شخصًا متحفظًا ولم يسبق أن أظهر لي أي اهتمام خاص، لكن الروابط القبلية خانته في ذلك اليوم، فبمجرد أن نطق المدير اسمي في صَدارة القائمة، صرخ بأعلى صوته وهو يقذف المسطرة المسطحة عدة مرات في الهواء قبل أن يمسكها (كما يُفعل بالبندقية)، متبعًا في ذلك تقليداً مألوفاً في أوساط المحاربين منذ قديم الزمان … إن هذه فرصة سانحة لأشيد به كما يستحق، وأدعوَ الله أن يتقبله في كريم جناته.
وهكذا، انتهى العام الدراسي الأول على خير …
ما زلت أذكر أسماء بعض تلاميذ المدرسة، كان بعضهم معي في الصف الأول الابتدائي، في حين كان آخرون في الصف المجاور، مثل : إبراهيم بن أمينو وبدنَّا بن سيدي، وهما الآن موظفان حكوميان ساميان – محمذن بَتَّه والمبارك وحامد ابنا الخال، مُفتشو تعليم – محمذن المعروف باسم “امذَين” بن ببهَّا، مهندس – النَّم بم حمدَن، أستاذ علوم بارز – محمذن كَرْ، إطار مصرفي – محمدن بن محفوظ، الذي أصبح (كما قيل لي) رجل أعمال – إِمَّدْ بن سيدي محمد، معلم – محمد الأمين بن احمَيِّدْ، رئيس الفصل الذي غاب عنِّي ذكرَه – أحد أبناء أحمدو مامين (حِمَّوْ أوغيره، لا أتذكر…) وتلامذة آخرون … كان هناك أيضًا نخبة من أمثال أخي “الرَّجَّالَه”، الذي أصبح أستاذاً في المرحلة الثانوية؛ وأحمد بن محمودي، موظف حكومي وأديب شهير؛ ومحمد محفوظ بن معاوية (المعروف الآن بمحمد)، وهو ابن مدير المدرسة، الذي ارتقى جميع المناصب الإدارية؛ والمرحوم محمد بن اعبيدمو، المعروف بمكره وتشويقه، ومحمد بابا بن أحمد يورَ، شخصية سياسية بارزة، شغل منصب أمين عام فرع حزب الشعب الموريتاني في المذرذرة، وآخرين نسيتُ أسماءهم واحتفظت في الذاكرة بملامح وجوههم …
كثيرًا ما كان السيد “فالْ” يتركنا تحت إشراف شابٍ راقٍ، يتحدث الفرنسية بطلاقة، ولإشغالنا خلال فترة إشرافه، كان هذا الشاب يطلب منا تارةً الغناء وتارة القيام بتعابير وجهٍ مُضحكة، وقد كنا نجد دروسه في غاية التشويق. وهذا الشاب ليس سوى ببَّها بن أحمد يورَ، الذي سيحظى بمستقبل باهر سينعكس نفعه على كافة مقاطعة المذرذرة …لا أدري إن كان ببها حينَها طالبًا في الصف المجاور (CE1) أو أنه كان قد انتقل للدراسة في نواكشوط.
في تلك الفترة، كان ابير التورس مركزًا ثقافيًا متقدمًا مقارنة ببقية البلاد، وكان أفضل بكثير من “البادية” المتواضعة حول أبي تلميت، والتي كنت قد غادرتها لتوي … في ابير التورس، رأيت للمرة الأولى أكثر من سيارتين متوقفتين، حتى أني تمكنت من الاقتراب منها دون خوف، ومعاينتها عن كثب عبر النوافذ. قبل هذا الاكتشاف، كانت معرفتي الميكانيكية تقتصر على مشهد شاحنة T 46 وهي تمر على طريق بوتلميت-لخشيم-روصو، مثيرة سحابة ضخمة من الغبار. وفي ابير التورس أيضًا، شممت لأول مرة رائحة “مارُو طلالَه” (الأرز المُحمَّر)، الذي كانت تحضرها الموهوبة “خِجَّه” بانتظام دقيق … كما تعرفت هناك على بعض الأطباق التي لم تكن تناسب ذوقي، لكنها أثرَت مفرداتي بتعابير “حضارية” كنت أعيد استخدامها خلال العطلات الدراسية “لِحراق” أطفال البادية.
يتواصل …
عز الدين بن ڭراي بن أحمد يورَ