تشهد مالي حالة من الانهيار الأمني والسياسي المتسارع، مع اتساع رقعة سيطرة الجماعات المسلحة وتراجع نفوذ السلطة الانتقالية للعسكر. وجاء انسحاب قوات فاغنر الروسية مؤخرًا ليعقبه دخول وحدات من “الفيلق الإفريقي” الروسي لتقديم الدعم العسكري للنظام الحاكم في باماكو  . هذه التطورات في مالي تحمل انعكاسات مباشرة على موريتانيا المجاورة، وتفرض عليها تحديات أمنية واستراتيجية تتطلب استجابات متوازنة وحكيمة . يركّز هذا التحليل على احتمال انتقال عدوى عدم الاستقرار والتهديدات الأمنية من مالي إلى الأراضي الموريتانية في الوقت الراهن وخلال السنوات الخمس المقبلة، استنادًا إلى قراءات مراقبين ومحللين دوليين. ويستعرض التحليل حركة الجماعات المسلحة في المنطقة، وسلسلة الانقلابات العسكرية في الساحل وتمدد رقعة العنف جغرافيًا، إضافة إلى مستوى جاهزية موريتانيا لمواجهة هذه التحديات.

اضطرابات مالي وتصاعد العنف في منطقة الساحل

شهدت مالي انقلابين عسكريين في أغسطس 2020 ومايو 2021 أوصلا المجلس العسكري بقيادة العقيد عاصيمي غويتاإلى السلطة. تحت حكم هذه الطغمة، تبنّت مالي نهجًا جديدًا في تحالفاتها الإقليمية؛ إذ أنهت شراكتها العسكرية مع فرنسا بطرد قواتها، ووضعت حدًا لمهمة بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام بحلول أواخر 2023 . في المقابل، اتجهت باماكو نحو موسكو طلبًا للدعم، فرحّبت بنفوذ مجموعة فاغنر الروسية كبديل عن الوجود الفرنسي قبل أن تحل محلها وحدات عسكرية روسية رسمية  . هذه الخطوات جاءت في سياق موجة أوسع من التغيير الجيوسياسي في الساحل؛ فقد شجّع انقلابيو مالي ظهور نهج مماثل في دول مجاورة (مثل بوركينا فاسو 2022 والنيجر 2023) مع “صحوة” للقومية الإفريقية لدى شعوب المنطقة المناهضة للهيمنة الفرنسية . وتشكّل حلف ثلاثي بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر تحت مسمّى “تحالف دول الساحل” لتعزيز التعاون الدفاعي فيما بينها بعيدًا عن أطر المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس) وبالتقارب مع روسيا .

على الصعيد الأمني، تدهور الوضع في مالي بشكل ملحوظ عقب الانقلابين.

تواجه السلطات المالية تمردًا متعدّد الجبهات من جماعات جهادية مرتبطة بتنظيم القاعدة (تحالف جماعة نصرة الإسلام والمسلمين – JNIM) ومن تحالف حركات أزواد الانفصالية في الشمال (الإطار الاستراتيجي الداعم للشعب الأزوادي – CSP) . منذ استيلاء العسكر على الحكم، نشأ فراغ أمني أفضى إلى ارتفاع كبير في وتيرة العنف وعدد الضحايا . كما أن انسحاب القوات الفرنسية وقوات الأمم المتحدة بحلول الربع الأخير من 2023 فاقم الوضع الأمني الهش أصلًا، إذ سُجّل في عام 2024 مستوى حوادث عنف أعلى هيكليًا مما كان عليه قبل الانقلاب . وظهرت دلائل خطيرة على تصاعد جرأة المتمردين: ففي أغسطس 2024 شنّت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين هجومًا انتحاريًا استهدف قاعدة عسكرية في العاصمة باماكونفسها للمرة الأولى منذ 2015 . وبعده بأسابيع، استخدم مقاتلو أزواد طائرات مُسيّرة لإلقاء متفجرات على مواقع للجيش المالي – وهي سابقة نوعية في هذا الصراع . هذه التطورات تشير إلى تنامي ثقة الجماعات المتمردة وتحسّن تسليحها وتكتيكاتها. وبالتوازي، عجز المجلس العسكري الحاكم عن تحقيق الوعد الرئيسي لانقلابه (استتباب الأمن)، مما أضعف شرعيته المحدودة أصلاً . إذ لا تزال نحو 40% من أراضي مالي خارج سيطرة الحكومة وتقع تحت نفوذ المتمردين الإسلاميين أو الانفصاليين، وهي نسبة لم تتحسن عن الوضع القائم عام 2023 . وفي ظل استمرار التهديدات، لجأت السلطات الانتقالية في مالي إلى تأجيل الانتخابات العامة التي كان مفترضًا عقدها في فبراير 2024 دون تحديد موعد جديد ، بل وحظرت الأنشطة الحزبية المعارضة مطالبةً بإرجاء التسليم للمدنيين . وينذر هذا المسار بأن عدم الاستقرار المؤسسي في باماكو سيستمر خلال السنوات المقبلة، ريثما يتمكن النظام الحاكم من السيطرة على الوضع الأمني المتدهور .

امتد تأثير أزمة مالي الأمنية إلى مجمل منطقة الساحل. فإلى جانب التحالف الجديد بين الأنظمة الانقلابية في باماكو وواجادوجو ونيامي، أصبحت بلدان الساحل بؤرة عالمية لنشاط الجماعات المتطرفة العنيفة . وتشير بيانات مشروع ACLED إلى تصاعد مطّرد في أعداد الهجمات وأعمال العنف ذات الطابع الإرهابي في النصف الأول من عشرينات القرن الحالي في دول الساحل مقارنة بمناطق نزاع أخرى . هذا الانتشار الجغرافي الواسع للعنف من شمال مالي إلى بوركينا فاسو والنيجر، بل وتهديده الآن لدول خليج غينيا جنوبًا، يطرح مخاطر “عدوى أمنية” يمكن أن تصل أطرافها إلى حدود موريتانيا الغربية أيضًا إذا ما تدهور وضع مالي أكثر.

تمدّد الجماعات المسلحة وخطر انتقال العنف إلى موريتانيا

تتصدّر جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) مشهد التهديدات العابر للحدود بين مالي وموريتانيا. فقد أصبحت المنطقة الثلاثية الحدود بين مالي وموريتانيا والسنغال مسرحًا استراتيجيًا لعمليات هذه الجماعة الجهادية التي تسعى لتوسيع نفوذها خارج الأراضي المالية . يذكر تقرير حديث لمعهد تمبكتو للأبحاث أن نشاط الجماعة تصاعد بشكل كبير في إقليم كاي الواقع بغرب مالي والمحاذي لموريتانيا؛ حيث زادت عملياتها العنيفة عام 2024 أكثر من سبعة أضعاف مقارنة بعام 2021 . تركّزت تلك الهجمات على مواقع الجيش المالي ونقاط الجمارك وأرتال الإمداد على الطرق الرئيسية نحو العاصمة باماكو والتي تمر عبر مناطق قريبة من الحدود الموريتانية والسنغالية . تستخدم الجماعة أسلوب الكمائن بالغارات الخاطفة والعبوات الناسفة لاستهداف قوافل الجيش وتعطيل حركة الحكومة في تلك المناطق، كما وقع مثلًا في هجوم يوم 8 فبراير قرب بلدة ملغي على بعد 35 كم من حدود السنغال، والذي أدى إلى مقتل 3 جنود ماليين . ويبدو أن استراتيجية الجماعة في الجنوب الغربي لمالي تهدف إلى عزل باماكو عن طرق إمدادها وإضعاف قبضة الدولة هناك، فضلًا عن محاولة توسيع موطئ قدمها نحو دول الجوار.

لا يقتصر نشاط تلك الجماعات على العمليات القتالية، بل يشمل التغلغل الاجتماعي والاقتصادي. إذ تسعى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى استغلال الثغرات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الحدودية لكسب الحاضنة والتجنيد . فهي تُروّج خطابها المتطرف عبر الدعوة بين السكان المحليين، وتستثمر في شبكات التهريب عبر الحدود (من تهريب المواشي والأخشاب والأسلحة والمخدرات) لتمويل نفسها وتوسيع نفوذها  . وقد لوحظ أنها بدأت تستهدف بعض زعماء القبائل والشخصيات المحلية الرافضة لفكرها، حتى وصل بها الأمر إلى اختطاف خليفة إحدى الطرق الصوفية البارزين (الشيخ ثيرنو الحاج عمر تال) في منطقة نيورو قرب حدود موريتانيا أواخر عام 2024 . هذا التحول النوعي أكد أن الجماعة مستعدة لمواجهة حتى الرموز الدينية المحلية بهدف فرض نفسها كسلطة “شرعية” بديلة في أعين السكان .

يشعر المراقبون بالقلق من أن تمدد الجماعات المتطرفة في غرب مالي قد يتسلل إلى داخل الأراضي الموريتانية إذا لم يتم احتواؤه. فهذه الجماعات تنشط بالفعل قرب الحدود الموريتانية الشرقية مستغلّة الطبيعة الصحراوية وصعوبة الرقابة الكاملة على الشريط الحدودي البالغ طوله أكثر من 2200 كلم . وقد سبق لتلك الجماعات أن استقطبت بعض الشباب من دول الجوار، بما فيها موريتانيا، للانضمام إلى صفوفها خلال العقد الماضي . ورغم نجاح نواكشوط في تحجيم نشاط الإرهابيين داخل البلاد منذ 2011، فإن الخطر لم يختف تمامًا؛ حيث كشفت أحداث حديثة عن وجود خلايا نائمة. على سبيل المثال، تمكن أربعة سجناء مصنفين كإرهابيين من الفرار من سجن في نواكشوط في مارس 2023، ووقع اشتباك مسلح خلال مطاردتهم قبل أن تتمكن قوات الأمن من القضاء عليهم لاحقًا. مثل هذه الحوادث تُظهر أن الفكر المتطرف لا يزال قائمًا وإن كان محاصرًا، وأن أي فراغ أمني جديد قد يوفر له متنفسًا. لذا تحذّر التقارير من أن استمرار تدهور الأوضاع في مالي قد يشجّع عناصر متشددة على محاولة التسلل أو إعادة تنشيط الخلايا داخل موريتانيا، سواء لتنفيذ عمليات إرهابية أو لاستغلال الأراضي الموريتانية كملاذ خلفي   .

التوترات الحدودية وتدفّق اللاجئين إلى موريتانيا

من التداعيات المباشرة لأزمة مالي على موريتانيا التدفّق الكبير للاجئين عبر الحدود. تستضيف موريتانيا حاليًا أكبر عدد من اللاجئين الماليين في منطقة الساحل؛ إذ يوجد – حسب تصريحات الوالي ماحي ولد حامد- أكثر من 300 ألف لاجئ مالييقيمون في مخيمات بمنطقة الحوض الشرقي الموريتاني قرب الحدود، وعلى رأسها مخيم امبره (Mbera) . ويشير برنامج الأغذية العالمي إلى أن إمكانية عودة هؤلاء إلى ديارهم في المدى المنظور ضعيفة للغاية، بل إن الأعداد مرشحة للارتفاع مع استمرار فرار المدنيين من دوامة العنف في مالي . فقد شهد العام الماضي وحده لجوء ما يربو على 55 ألف مالي إلى موريتانيا هربًا من الاشتباكات بين الجيش والمتمردين ومن هجمات الجماعات الإرهابية . ويُحذّر الخبراء من سيناريوهات أسوأ في حال انهارت الأوضاع تمامًا في مالي، حيث يمكن أن يتدفق مئات الآلاف من الماليين نحو الأراضي الموريتانية طلبًا للأمان . مثل هذا النزوح الجماعي سيشكل ضغطًا إنسانيًا هائلًا على موارد موريتانيا المحدودة، وقد يحمل في طياته مخاطر أمنية كتسلل عناصر متطرفة بين صفوف اللاجئين أو نشوب توترات بين اللاجئين والسكان المحليين.

إلى جانب أزمة اللاجئين، تعاني موريتانيا من توترات أمنية متكررة على طول حدودها مع مالي. فقد شهدت السنوات الأخيرة حوادث خطيرة مست أمن المواطنين الموريتانيين في المناطق الحدودية. في عام 2022 مثلًا، أفادت تقارير بأن قوات من الجيش المالي مدعومة بعناصر من مرتزقة فاغنر توغلت عبر الحدود وقتلت عدة مواطنين موريتانيين داخل الأراضي المالية المحاذية، كما تم تسجيل حالات خطف لموريتانيين في مالي خلال مارس من نفس العام . ورغم نفي باماكو مسؤوليتها المباشرة عن بعض تلك الحوادث، إلا أن نواكشوط تعاملت معها بحزم دبلوماسي. تصاعد التوتر مجددًا في أبريل 2024 حين طاردت وحدة من الجيش المالي بمرافقة مقاتلين من فاغنر مجموعة من المسلحين عبر الحدود إلى داخل القرى الموريتانية (مدلّه وفصالة في أقصى الجنوب الشرقي لموريتانيا)، ووقع خلالها اشتباك أسفر عن مقتل عدة مدنيين موريتانيين . اعتبرت موريتانيا هذا الاعتداء انتهاكًا صارخًا لسيادتها واستهدافًا لمواطنيها العزّل، فسارعت إلى استدعاء السفير المالي في نواكشوط في 19 أبريل لتسليمه رسالة احتجاج شديدة اللهجة ضد “الهجمات المتكررة على أبرياء داخل الأراضي الموريتانية” مع التأكيد أن هذا الوضع غير مقبول إطلاقًا . وبالتوازي، قام وفد أمني رفيع يضم وزير الدفاع الموريتاني حننّه ولد سيدي ووزير الداخلية محمد أحمد ولد محمد الأمين بزيارة القرى الحدودية المتضررة للاطلاع ميدانيًا على الأوضاع وطمأنة الأهالي . وبعدها بيوم توجّه وزير الدفاع الموريتاني بنفسه إلى باماكو حيث التقى العقيد غويتا في مسعى لاحتواء الأزمة ومنع تفاقمها . وعلى الأرض، رفعت القوات الموريتانية جاهزيتها بشكل لافت؛ إذ أجرت مناورات عسكرية بالذخيرة الحية قرب الحدود في مطلع مايو 2024 بإشراف مباشر من قائد الأركان الساب الفريق مختار بله شعبان، الذي دعا الوحدات المرابطة هناك إلى “اليقظة التامة” . وشاركت في المناورات مختلف صنوف القوات (سلاح الجو والمدفعية والقوات الخاصة) في محاكاة لتدمير عدو افتراضي حاول التسلل إلى العمق الموريتاني . وأكد بيان للجيش الموريتاني أن الهدف من هذه الأنشطة هو اختبار جاهزية الوحدات المقاتلة وقدراتها العملياتية، والاطلاع على احتياجاتها اللوجستية، وتجربة الأسلحة الثقيلة والطيران في ميدان المعركة . وقد تعهّد وزير الدفاع خلال جولته تلك بتعزيز التواجد العسكري في المنطقة الحدودية، وأبلغ السكان بأن السلطات المالية أكدت له اتخاذ إجراءات لمنع تكرار أي اختراق داخل الأراضي الموريتانية مستقبلًا .

تكشف هذه الأحداث أن موريتانيا تواجه معضلة أمنية مع جارتها الشرقية: فعليها الموازنة بين حماية مواطنيها وفرض هيبتها من جهة، وتفادي الانجرار إلى مواجهة عسكرية مفتوحة مع مالي من جهة أخرى. حتى الآن، انتهجت نواكشوط ضبط النفس الاستراتيجي مقرونًا بإجراءات ردع محدودة. وقد أثنى العديد من المراقبين على سياسة الرئيس محمد ولد الغزوانيالحذرة في التعاطي مع الأزمة، حيث تجنّب التصعيد العسكري أو القطيعة الدبلوماسية مع باماكو رغم الاستفزازات . اعتمد ولد الغزواني نهجًا دبلوماسيًا متزنًا حافظ به على شعرة معاوية مع النظام المالي ومع روسيا الداعمة له، لضمان استمرار قنوات الحوار والتنسيق الأمني الحدودي . بالمقابل، يواجه هذا النهج انتقادات داخلية من البعض ممن يرون فيه لينًا مفرطًا. فقد ارتفعت أصوات في المشهد السياسي والإعلامي الموريتاني تدعو إلى موقف أكثر صرامة لـ”تلقين النظام المالي درسًا” دفاعًا عن السيادة والأرواح . ومن بين أوراق الضغط التي طُرحت داخليًا التلويح بورقة الميناء؛ إذ يعتمد اقتصاد مالي بشكل شبه كلي على ميناء نواكشوط للحصول على وارداته وتصدير بضائعه، ودعا بعض السياسيين إلى استخدام هذا النفوذ الاقتصادي لمعاقبة باماكو حتى تردع جيشها عن تكرار الانتهاكات . غير أن أصواتًا أخرى حذّرت من مغبة التصعيد غير المحسوب ودعت للتريث حفاظًا على استقرار المنطقة . كذلك برزت دعوات في الأوساط الإستراتيجية لأن تعزّز موريتانيا تحالفها الأمني مع الجزائر كقوة إقليمية قادرة على موازنة النفوذ الروسي في مالي وكبح جماح أي اندفاع غير محسوب من باماكو  . ويشير أنصار هذا التوجه إلى أن التاريخ أثبت موثوقية الجزائر في الوقوف مع موريتانيا أمنيًا، مقارنة بدول أخرى في المنطقة . في المحصلة، يبدو أن صانعي القرار الموريتانيين يدركون حساسية الموقف ويسعون لجعل الردع الأمني والاقتصادي آخر الدواء، مع إعطاء الأولوية للحلول الدبلوماسية وتجنب الانخراط في أي حرب وكالة قد تُفرض على أراضيهم  .

جاهزية موريتانيا لمواجهة التهديدات الإقليمية

على الرغم من التحديات الجديدة، تتمتع موريتانيا حاليًا بوضع أمني داخلي أفضل نسبيًا من جيرانها في الساحل. فقد نجحت نواكشوط في منع وقوع أي هجوم إرهابي كبير على أراضيها منذ عام 2011  ، بعد أن عانت بين 2005 و2011 من سلسلة اعتداءات استهدفت وحدات عسكرية ورعايا أجانب على يد تنظيم “القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي” وفروعه . هذا التحسّن الأمني لم يأت بمحض الصدفة، بل كان ثمرة إصلاحات وجهود متعددة المستويات خلال العقد الماضي. إذ نفّذت السلطات الموريتانية برنامجًا شاملًا لتحديث قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية، شمل تطوير البنية التحتية العسكرية (بناء ثكنات ونقاط ارتكاز جديدة على الحدود ورفع جاهزية النقل والإمداد) وإعادة تنظيم الوحدات وإنشاء تشكيلات متخصصة لمكافحة الإرهاب، مع تحسين رواتب الجنود وظروفهم المعيشية . كما جرى الارتقاء بمستوى التدريب سواء داخل البلاد أو عبر منح لمنتسبي القوات في أكاديميات دولية، وذلك في إطار شراكات ثنائية ومتعددة الأطراف دعمت موريتانيا، من ضمنها تعاون وثيق في إطار مجموعة دول الساحل الخمس (G5) قبل أن يشلّها انسحاب مالي . وقد ارتفعت الميزانية الدفاعية لموريتانيا على نحو ملموس خلال السنوات الأخيرة، وتلقت قواتها تجهيزات ومساعدات تقنية من شركاء دوليين (كالولايات المتحدة وفرنسا والصين وغيرها) لتعزيز قدراتها على ضبط الحدود ومحاربة الإرهاب  .

بالتوازي مع المقاربة الأمنية الصلبة، انتهجت موريتانيا إستراتيجية ناعمة لمعالجة جذور التطرف ومنع انتشاره. من أبرز معالمها برنامج المناصحة الذي أطلقته السلطات للحوار مع الموقوفين في قضايا إرهاب وإعادة تأهيلهم فكريًا ودينيًا. كما استعانت الحكومة بشبكة من رجال الدين المعتدلين وشيوخ القبائل للمساهمة في تفنيد مزاعم الجماعات الجهادية وقطع دابر التعاطف الشعبي معها. وتفيد تقارير بأن الاستخبارات الموريتانية نجحت في مدّ أذرع استعلامية داخل عمق الأراضي المالية نفسها، لاسيما ضمن المناطق المتاخمة لموريتانيا وبين المجتمعات العربية والطوارق هناك، مما مكّنها من رصد مبكر لأي تهديدات محتملة عبر الحدود . ويُنظر إلى تولي الرئيس الحالي ولد الغزواني – وهو قائد أركان سابق – الحكم عام 2019 على أنه ساهم في مواصلة نهج سلفه في إعطاء أولوية قصوى للأمن، مع قدر أكبر من الانفتاح على المعارضة والمجتمع المدني لتجفيف منابع التطرف المحلي. وقد أشاد تقرير مؤشر التحول الدولي 2024 بفعالية التنسيق المؤسسي في موريتانيا بمجال مكافحة الإرهاب، مشيرًا إلى غياب أي هجوم كبير طوال 12 عامًا خلافًا لبقية دول الساحل التي تواجه موجة اعتداءات متواصلة .

على الرغم من هذه المكتسبات، يدرك المراقبون أن بيئة التهديد تتغير باستمرار وأن على موريتانيا تحديث مقارباتها على الدوام. ويشير بعض الخبراء إلى أن نواكشوط فقدت جزءًا من نفوذها على النظام المالي خلال السنوات الأخيرة نتيجة حرصها الشديد على عدم إغضابه ، كما أن هناك تطورات أمنية فاجأت صناع القرار الموريتانيين ولم يتم استباقها بشكل كافٍ . بناءً عليه، يطرح الباحثون عدة توصيات لتعزيز جاهزية موريتانيا ووقايتها من ارتدادات أزمة الساحل. من أبرز الخطواتالاستباقية المقترحة في هذا السياق :

تحصين الجبهة الداخلية عبر إطلاق حوار وطني شامل يعزز الوحدة الوطنية ويقوي مناعة المجتمع ضد الاختراقات الأمنية . فكلما ازداد تماسك الصف الداخلي وتراجعت الاستقطابات، تقلصت فرص استغلال الجماعات المتطرفة للهشاشة الاجتماعية.

رفع كفاءة المراقبة الاستخباراتية للحدود عن طريق تطوير قدرات أجهزة الاستخبارات والتجهيز التقني لرصد أي محاولات تسلل أو نشاط مشبوه في المناطق النائية، والتصدي الفوري لها قبل تحولها إلى تهديد فعلي . ويتضمن ذلك توسيع شبكات المخبرين المحليين وتعزيز الاستطلاع الجوي والبري على طول الحدود الشرقية.

وضع خطط طوارئ إنسانية للتعامل مع سيناريوهات موجات لجوء كبيرة من مالي . تشمل هذه الخطط تجهيز مراكز إيواء مؤقتة وتخزين مواد غذائية وطبية كافية، بالإضافة إلى آليات فرز أمني لضمان عدم تسلل عناصر خطرة ضمن تدفقات اللاجئين.

تعزيز التنسيق الإقليمي والدولي في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة . يتطلب الوضع تفعيل قنوات التعاون الثنائي مع الدول المجاورة (كالسنغال والجزائر ومالي نفسها عند الإمكان) وتبادل المعلومات الاستخبارية حول تحركات الجماعات المسلحة. وكذلك الاستفادة من دعم الشركاء الدوليين (الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة، الولايات المتحدة…) في التدريب وبناء القدرات.

إستراتيجية اتصال وإعلام لرفع مستوى الوعي الشعبي بخطورة التهديدات المحدقة . توصي الدراسات بأن تبادر الدولة عبر وسائل الإعلام وخطب المساجد وحملات التوعية إلى شرح طبيعة الخطر الإرهابي المحدق ببلادنا انطلاقًا من بؤر التوتر الإقليمية، وإلى حثّ المواطنين على اليقظة والتعاون مع الأجهزة الأمنية (مثل الإبلاغ عن أي تحركات مريبة في المناطق الحدودية).

إضافة إلى ما سبق، يشدّد بعض المحللين على أهمية تحديث العقيدة العسكرية الموريتانية لتتلاءم مع طبيعة التهديدات الحالية. إذ يقترح بعض المحللين الأمنيين اتباع أسلوب “الردع المرن” مع مالي: فهو يدعو من جهة إلى إعادة تموضع وانتشار وحدات الجيش الموريتاني على الحدود بشكل يظهر جاهزيته للقتال ورد أي عدوان، إضافة إلى إعادة هيكلة القوات المسلحة وتحديث تسليحها الذي يرى أنه بات متقادمًا أمام تحديات اليوم . ومن جهة أخرى، يدعو إلى استخدام أدوات الضغط الاقتصادية لكبح جماح باماكو عند الضرورة القصوى – مثلاً عبر التلويح بمراجعة سياسة انسياب السلع عبر ميناء نواكشوط – إذا ما استمر استهداف الماليين وواغنر للموريتانيين وممتلكاتهم دون رادع . كما ينبّه المراقبون إلى وجوب معالجة سبب احتكاك المدنيين الموريتانيين مع القوات المالية، وذلك بتثبيت النشاط الرعوي داخل موريتانيا قدر الإمكان بدل الارتحال الموسمي إلى العمق المالي . ويقترح في هذا الصدد تنظيم اتفاقيات جديدة مع السلطات المالية تحدد مناطق رعي آمنة للمنمين الموريتانيين داخل مالي تتولى دوريات عسكرية مالية حمايتها، حتى لا يتكرر تعرض الرعاة لهجمات أو ابتزاز . أما على صعيد العمل الاستخباراتي، فيرى المراقبون أن هناك قصورًا ينبغي تداركه، منتقدين أداء الأجهزة المعنية في مراقبة ما يجري عبر الحدود الشرقية رغم إلمامها الوثيق بطبيعة المنطقة . ويوصي بأن تكون للمخابرات الموريتانية “عيون في كل شبر” من المناطق الحدودية وداخل الأراضي المالية ترصد أي وجود مريب – سواء لرتل عسكري مالي أو لعناصر فاغنر أو للجماعات المسلحة – وتبلغ عنه لتحييد الخطر قبل وصوله حدود موريتانيا.

آفاق السنوات الخمس القادمة

في ظل المعطيات الحالية، يبدو أن موريتانيا ستظل خلال السنوات الخمس المقبلة في مواجهة تحديات أمنية مرتبطة عضوياً بتطورات الأزمة في مالي. فإذا استمر تدهور الوضع المالي أو دخلت البلاد في دوامة انهيار شامل لسلطتها المركزية، فإن التداعيات على موريتانيا قد تكون دراماتيكية. يحذر مراقبون من سيناريو وصول الجماعات الجهادية المالية إلى تخوم نواكشوط نفسها إن سقطت باماكو في أيديهم وأقاموا كيانًا متطرفًا هناك . ورغم أن هذا السيناريو هو الأسوأ ولا يزال احتماله محدودًا، إلا أن مجرد تمدد الفراغ الأمني في مالي سيضاعف من الأعباء على موريتانيا. ستضطر نواكشوط حينها لمواجهة موجات أكبر من اللاجئين الفارين من حكم المتشددين، ولرفع حالة التأهب على حدود طويلة يصعب تحصينها بالكامل، وربما للتعامل مع محاولات اختراق لجماعات تسعى لاستخدام الأراضي الموريتانية منصةً لوجستية أو ميدانية. وستزداد أهمية التحالفات الإقليمية بالنسبة لنواكشوط؛ فمثلاً قد تجد نفسها أقرب إلى الجزائر والسنغال للتنسيق الأمني بغية تطويق أي انفلات للعنف عبر الحدود، في ظل برود علاقتها بالأنظمة الانقلابية في مالي وبوركينا فاسو (المنخرطة في تحالفات بديلة مع روسيا). كذلك من المرجح أن تعمد موريتانيا إلى تعزيز تعاونها مع الشركاء الدوليين (خاصة الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي) الذين باتوا يعتبرونها نموذج استقرار نادر في منطقة مضطربة . هذا التعاون قد يشمل تكثيف برامج التدريب وتبادل المعلومات الاستخباراتية والدعم التقني للقوات الموريتانية، لضمان جاهزيتها أمام أي تصعيد محتمل.

في المقابل، هناك سيناريو إيجابي محتمل يتمثل في نجاح الجهود الدبلوماسية الإقليمية في حلحلة أزمة مالي، وهو تطور سيكون له أثر إيجابي مباشر على أمن موريتانيا. ويرى بعض المحللين الغربيين أن موريتانيا نفسها تملك أوراقًا مهمة تؤهلها للوساطة وإنهاء الصراع في مالي  . فقد حافظت نواكشوط تاريخيًا على حياد إيجابي في نزاعات الإقليم، وتمتلك علاقات طيبة مع مختلف الأطراف المالية (الحكومة والمتمردين والجماعات القبلية وحتى بعض القيادات الإسلامية) . كما أنها مهدَّدة مباشرة بفعل استمرار الحرب في مالي، ما يمنحها دافعًا قويًا للتحرك . يُضاف إلى ذلك أن موريتانيا كانت تتولى رئاسة الاتحاد الإفريقي لعام 2024، ما يمنح مبادرتها ثقلًا دبلوماسيًا أكبر وشرعية إفريقية إذا قررت خوض وساطة فعلية . وقد اقترح باحثون في المجلس الأطلسي (Atlantic Council) خطوات محددة يمكن أن تقودها نواكشوط، تبدأ بعقد لقاءات مع زعماء الجماعات المسلحة غير المصنفة إرهابية في شمال مالي وكذلك شخصيات مؤثرة في التنظيمات الجهادية، مستفيدة من الروابط التاريخية والثقافية بين المجتمعين الموريتاني والأزوادي . بل ذهبت بعض الطروحات إلى دعوة موريتانيا لمحاولة إقناع قادة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بفك ارتباطهم بتنظيم القاعدة الأم، تمهيدًا لإدماجهم في تسوية سلمية محلية وتحييد خطرهم على عملية السلام . وفي حال تبنّي موريتانيا لدور الوسيط النشط، فإن بوسع رئيسها بحكم موقعه في الاتحاد الإفريقي دعوة مختلف فرقاء الأزمة إلى طاولة حوار برعاية إفريقية ودعم دولي . نجاح مثل هذا المسعى – وإن كان محفوفًا بالعقبات – من شأنه تخفيف وطأة النزاع في مالي بشكل كبير خلال المدى المتوسط، وبالتالي تقليص تهديد الإرهاب والنزوح لموريتانيا وجوارها.

على ضوء السيناريوهات المحتملة، يمكن القول إن السنوات الخمس القادمة ستكون حاسمة لقدرة موريتانيا على تحصين نفسها من ارتدادات الفوضى في مالي. تشير الاتجاهات الحالية إلى استمرار عدم الاستقرار في باماكو على المدى القريب، مع ترجيح بقاء المجلس العسكري في السلطة وتأجيل عودة الحكم المدني ما دامت المعارك ضد المتمردين مستعرة . هذا يعني أن نواكشوط ينبغي أن تخطط على أساس الأسوأ، عبر تبني إستراتيجية وقائية شاملة: تعزيز دفاعاتها الحدودية، ورصد أي تحول في توازنات القوى بمالي (مثل ظهور فصائل جديدة أو تمدد نشاط داعش في الشرق المالي)، والحفاظ على جاهزية عالية للتعامل مع الطوارئ. وفي الوقت ذاته، سيكون من مصلحة موريتانيا دعم أي مبادرات إفريقية أو دولية للتهدئة في الساحل، والمساهمة فيها بفعالية، لأن تحقيق السلام في مالي هو الضمان الأكيد على المدى البعيد لأمن موريتانيا القومي.

خاتمة

في المحصلة، تتشابك المنظومة الأمنية الموريتانية اليوم مع تطورات المشهد المضطرب في مالي على نحو غير مسبوق. فالتحديات التي تفرضها الأزمة المالية – من تمدد الجماعات المتطرفة، إلى تدفقات اللاجئين، وصولًا إلى ارتدادات الانقلابات وتغير التحالفات – تضع نواكشوط أمام اختبارات صعبة في الحفاظ على أمنها واستقرارها. غير أن التجربة الموريتانية خلال العقد المنصرم أظهرت قدرة ملحوظة على الصمود والتكيّف، بفضل مزيج من السياسات الأمنية الصارمة والدبلوماسية الحكيمة  . هذه المكتسبات تحتاج الآن إلى تعزيز وترسيخ عبر خطوات استباقية تُجنّب موريتانيا الأسوأ. وكما يرى المراقبون، فإن عنصر الوقت والعمل الوقائي يلعبان دورًا حاسمًا في درء الخطر قبل استفحاله . لذا، فإن الاستثمار في رفع جاهزية القوات، وتقوية الجبهة الداخلية، وتوثيق التعاون مع الجوار والشركاء، يبقى رهان موريتانيا الأفضل لحماية أرضها وشعبها من عدوى الفوضى المنتشرة في جوارها. وبقدر ما تنجح نواكشوط في هذه المهمة خلال السنوات الخمس المقبلة، بقدر ما ستضمن أن تبقى واحة استقرار نسبي في قلب إقليم يعصف به عدم الاستقرار.