كنت قبل سنتين تقريبا كتبت عن لغة الجسد عند المرشح الرئاسي وقتها محمد ولد الشيخ الغزواني، على اعتبار أن ذلك أحد المداخل الأساسية لفك رموز الشخصية، والآن بعد هذه المدة أرى أنه تحسن كثيرا على هذا المستوى، وبات أكثر ثقة بالنفس وبخياراته السياسة، عكس ما يقوله بعض المحللين والنمامين ومدعي التجسس على الغيب.
أقول هذا الكلام، وأنا أتابع الزيارة التي يؤديها الرئيس ولد الغزواني لولاية اترارزه هذه الأيام، وما صاحبها من أحداث وحوادث ونقاش على السطح وفي الخاص، لا سيما أن الظرفية السياسية الحالية المغبشة، كانت بحاجة إلى أن يخرج الرئيس الصموت والمقتصد في كلماته عن صمته، إن لم نقل عن هدوئه، والذي خرج عنه لاحقا كما سنرى.
لقد بدا ولد الغزواني خلال الحديث أكثر تركيزا، ولعل كونه يتحدث باللهجة جعله يشعر بأريحية أكبر، وإن كان من حين لآخر ظل يلقي نظرة فاحصة على الأوراق بين يديه، مستمدا منها بعض التفاصيل.
حديثه عن الأمن واستتبابه جاء في لحظة عرفت فيها نواكشوط حوادث قتل مروعة جو عام طبعته أعمال السطو والاغتصاب بطابع من الخوف والرعب، إلا أن اللهجة الشديدة التي تحدث بها الرئيس اليوم تشي بجذرية المسألة بالنسبة له، كما تعبر بشكل أو بآخر عن غليان مستوى معين من العضب لدى الرئيس الصموت، لم يستطع أن يداريه حتى وهو على المنصة، مما حداه إلى توعد من وصفهم ب”مزيفي الحقائق الأمنية” من المدونين والنشطين على وسائل التواصل الاجتماعي عبر لغة قوية، وتتضمن كمّا كبيرا من التهديد لأولئك “الذين يلعبون بالنار” بحسب عبارة الرئيس الذي باح بأنه لا ينصحهم بذلك. كأنه كان يقول “لا تختبروا صبري!”.
صحيح أن زيارة الرئيس هي زيارة عمل، وتهدف إلى إطلاق مشاريع زراعية وتنموية، إلا أنه كان من الممكن أن يتطرق لأهم القضايا الوطنية الكبرى بعد صمته الطويل، وعلى رأسها ملف العبودية والأزمة العقارية والتي كانت آخر انفجاراتها سلبُ أسر من لحراطين أراضيهم، من قبل بعض المتنفذين في المنطقة نفسها التي زارها الرئيس، ولم يكن من المفهوم ولا المنطقي، وقد وجه الرئيس تهديدا إلى المدونين المنفلتين من كل مسؤولية، أن لا يوجه التهديدات ذاتها وباللغة القوية نفسها إلى من يستضعفون قسما كبيرا من الشعب، ويستقوون بالسطلة والمال على الفقراء، لا سيما أنه وجه تهديدا مبطنا وتحذيرا إلى من قال إنهم يتلاعبون بالنسيج الاجتماعي، وهل هناك تلاعب بالنسيج الاجتماعي أكبر وأخطر من الظلم والاستعلاء والاستقواء بالسلطة ضد المواطنين؟.
ولعل الضربة الأقوى للمحتشدين منذ أسبوع والحاشدين للمساكين والضحايا، من أجل استقبال رئيس الجمهورية، من رؤساء قبائل ومومياوات سياسية هي إلغاء عنصر الشوشرة المسمى “لقاء الأطر”، هذا البند الثابت في الزرايات، وإن كانت هناك معلومات تقول إنه تم إلغاؤه تقول باقتراح من وزارة الصحة، إلا أنه يمثل ضربة قوية لأذرع أخطبوط يتمدد وثقب أسود يلتهم كل شيء، وكم هو مفيد أن نرى أرتال السيارات الفارهة والمتكبرة والساخرة من أكواخ المواطنين المعدمين في الولاية تعود إلى أدراجها خائبة!.. ولعل هذه ليست المرة الأولى التي يلغي فيها ولد الغزواني بعض البروتوكولات الزائدة التي تأخذ ولا تقدم شيئا، وتثقل كاهل السلطة بالتزامات لا ضرورة لها وبمجاملات وأكاذيب لا نهاية لها، مثل إلغاء تلك العبارة الزنخة (بتوجيه من معالي رئيس الجمهورية، وبتنفيذ من حكومة الوزير الأول) التي ظلت ترددها منذ عشرات السنوات الألسن نفسها دون أن تعني شيئا، وكذلك إلغاؤه لخطاب عيد الفطر.
كان ولد الغزواني هذه المرة واضحا في خطابه وحاسما في كلامه، غير أنه أخذته الأحداث الأخيرة، وشغله الرد عليها أكثر من قضايا أخرى تبدو أكثر جذرية، إلا أن في هذا الاهتمام بالتداعيات الصغيرة والتفاعلات والتفاصيل اليومية ما يجعلنا نزعم بأن الرئيس ليس “نائما” كما يتندر بعضهم، لكنه فيما يبدو ينتهج سياسة الوخز على دفعات بدل الضجيج العالي والنهج الفضائحي والشو والبوز الذي كان ينتهجه عزيز.
أطرف ما رأيت في هذا المقام، هو ما علق به أحدهم، عندما قال الرئيس في خطابه على المباشر (أنا واع جدا بالمشاكل التي تواجه المزارعين) فعلق المعني بقوله (غزواني يبان قال انو واعي).