في سنواتي الأولى، سَرَت إلى مُخيلتي باقةٌ مِن الصور والانطباعات البَهيَّة عن ولاية تڭانِتْ، كان الحديث عنها يبعث في نفسي الشعور بالغبطة ويُحيل في ذهني إلى الأسطورية الجامحة في وِديان التميز والإبداع، كنت أسمع الكلام عنها عند الكبار مِن حولي ممن عرفوها بالمعاينة والسماع، ولدى الصغار مِمن التقطت أسماعهم أشياء من هنا وهناك، سمعتهم يصفونها بأجمل ولايات الوطن طبيعةً، وأنها أرض الهضاب والنخيل والجداول المائية، عرفتهم يقولون إنها عَرينُ أقدم الإمارات على الإطلاق وإحدى أقواها شوكة وأصبرها على الجِلاد، وأكثرها نَصيباً مِنَ الإرثِ المُرابِطِي المَجيد، وأنها مُستقر قبائلَ مرموقة أنجبت مِن الأمراء والعلماء والأدباء والأولياء والصالحين ما كان ولا يزال كالقلائد في جِيدِ هذا المُنتبذ القَصي، وأنها رمز ممانعة ومقاومة الاستعمار الفرنسي حيث لقي الحاكم الفرنسي “كابُولانِي” حتفَه في تلك الربوع في ملحمة كتبتها يد التاريخ بالذهب والعِقيان، ارتبطت عندي بالتوسط فليست شرقاً ولا جنوباً ولا شمالاً ، وبالمركزية فلا حدودَ لها مع أي بلد خارجي …

ترتبط في مُخيلتِي بِبدايات الأدب الحسَّاني وبالتحديد إلى أشهر عُمَدائِه وأساطينِه المُبدعِ سَدُّوم بن أنجرتُو ومدائحِه الحماسية مِن “رَسْمٍ” و”اتْهَيدِينْ” في أمراء إيدوعيش الذين ألقى لديهم عصا التسيار بعد بداياتٍ كانت في إمارة أولاد امباركْ في أقصى جنوب شرق البلادْ …

تُحيل في خيالي إلى الشعر والنغمِ الوجدانِيَين، إلى نسيب الرجل الصالح محمدْ بن آدُبَّ وقد غنَّاهُ الشيخ وسيداتي ابنَا آبَّ عبر أثير الإذاعة في ليالٍ هادئةٍ غيَّبها الزمن في عُمقه السحيق، إلى تمجيد المآثر والبطولات مِن خلال الإلقاء الحماسي المُطرِب بصوت اعلِي بن أيدَّه، إلى المَديح العذب المؤثر بحُنجرة ابنه الخليفة وإلى أشرطة الثنائي المَحبوب سدّوم وديمي ومن خلالهما إلى مدائح البُرعي وغراميات نزارْ، إلى مواضع راسخة في الذاكرة مثل “اشْوِ” و”أشاريمْ” و”الرشيد” و”انخيلْ امْحَيْمِيدْ” و”ابْلغانْ” و”لِمْتَيْمَشْ” وغيرها مِن أماكنَ تحمل أسماؤُها مِن الشحنة العاطفية ما تحمله …

لم يخب ظنّي مع التقدم في السِّن، فقد اطلعتُ أكثر على القيمة الحقيقية لِعدد كبير من الشخصيات التاريخية والمعاصرة المنحدرة من تلك الولاية، فقد أدركت الملاحمَ البطولية للأمير بكار بن اسويدْ أحمدْ في مقارعة الاستعمار الفرنسي وما كانَ من استشهاده في يوم مشهود حول “رأس الفيل” في العام الثالث من عقدِ عشرينات القرن الرابع عشر الهجري، وهو نفس العام الذي توفي فيه الأمير أحمدْ سالم “بَيَّادَ” بن اعلي بن محمد لحبيبْ، كما أشار إلى ذلك القاضِي محمذن بن محمد فالْ “امَّيَيْ” في نظمه للحوليات حيث يقول:

وثالُثُ الأعوامِ رُدَّ للعَلِي
أحْمَدُ سالمٍ وبَكَّارُ العَلِي

كما أدركتُ المكانةَ السامقة للعلامة سيدي عبد الله بن الحاجْ إبراهيمْ وسمعتُ الحديث بكثرةٍ عن بعضٍ مِن مؤلفاتِه المُفيدة الذائعة المعتمدة في الأوساط الثقافية كمَراقِي السعودْ ونشر البنودْ في أصول الفقه، وطلعةُ الأنوارْ وهَدْي الأبرارْ في مصطلح الحديث، وغرة الصباحْ ونيل النجاحْ على مصطلح البخاري، ونَور الأقاحْ وفيض الفتَّاحْ في البلاغة، وروضُ النسرينْ في الصلاة على سيد الكونَين …

تعرفتُ على علماء مدينة تيشيت الأعلام وما لهم مِن نوازل وفتاوي وأقضية كان لها كبيرُ الفضل في إثراء التراث المالكي خصوصا والإسلامي على وجه العموم …
أدركتُ الناسَ مِن حولي يُنشدونَ ويستحسنون أشعارَ سيدي محمد بن الڭصري الكنتِي ومنها مُعلقته الشهيرة في التشوق لتڭانِتْ ونصوصا أخرى يقول في أحدها:

كَالحَمْدْ الِّ يَوادْ
لِمْرَيْفِڭْ وكْتِنْ رادْ
اعليك الله ابْعادْ
الدهرْ الِّ غَلَّاكْ
اُخِسْرِتْ حالِتْ لبلادْ
اعِدْتْ انْتَ لِلِّ جاكْ
ماهْ انتَ ذاكْ اُعادْ
ذَ ما هُو دَهْرْ اغْلاكْ
عِتْ آنَ مانِ زادْ
سيدِ مُحمَّدْ ذاكْ

سمعتهم يقارنون طلعة ابن الڭصري هذه في المعنى الذي تضمنته بقول لمرابط امحمدْ بن أحمد يورَ :

عاڭِبْ بَغْيَكْ ذاكْ الِّ كانْ
يِڭصِفْ عنُّو بَغْيْ الحِسْيَانْ
يِمْبَنْبَ مِنْ حِكْمْ الدَّيَّانْ
عاڭِبْ ذاك الى تَعْرَفْ كِنْتْ
عِتْ ابْلا وِلْهَ فِيكْ انْبَانْ
وِنْجَوْلِيكْ امْنْ اڭْرَيِّبْ عِتْ
سُبحانْ أسُبحانْ أسُبحانْ
اللَّ مَڭسَاهْ اعْلِيَّ كِنْتْ

غَيْرْ اصَّ ڭاعْ إلَا شَفْرَيْتْ
فيكْ ؤُفِيَّ شِفْتْ اِلِّى شِفْتْ
انْتَ مَاهْ انْتَ ذاكْ اتْلَيْتْ
وانَ زادْ اِلَّ كِنْتْ أُعِتْ

سمعتهم ينشدون فيستحسنون أشعار الأميرَين إبراهيم وعبد الرحمن ابنَي بَكَّار بن اسْوَيد أحمدْ ومُقطعات محمد عبد الله بن اعبيدْ الرحمن وادِّي بن الزين العَلَوييَن وامحمد بن الطلبة الأبَّاتي (نسبة للأسرة الكريمة: أهل أبَّاتْ) وغيرهم كثير.

فمِن جميل ما يختارون مِن شعر الأدباء في التعلق بتلك الربوع الجميلة قولَ الشاعر محمد الامين بن ختّار الجكَنِي:

فتًى يُمْسِي ويصبحُ بالرَّشيدِ
يُعّلَّلُ بالنسيب وبالنشيدِ

وأكمامُ النخيلِ تُريهِ زَهْواً
على جَنَبَاتِ ذَا القَصْرِ المَشِيدِ

يَحِنُّ لأهلهِ وفُضُولِ مالِ
لَعَمْرُ الله لمْ يَكُ بِالرَّشِيدِ

وقولَ الشاعر ابنُ اعبيد الرحمن العلوي المذكور آنِفاً مِن أبيات:

تغرَّبتُ عن بطْحا تِجِكْجَ وليتها
دَرَتْ ما يُقاسي من هُمومٍ غريبُها

وأفنيتُ في أرضٍ سِواها شَبيبتي
ولم يبقَ مني اليوم إلا نصيبها

(بلادٌ بها نيطتْ عليَّ تمائمي
وأول أرض مسَّ جلدي تَرِيبها)

وقول امحمد بن الطلبة الأبّاتِي في أبياتٍ معروفة على حناجر الفنانين:

قد أيقظتْ دِمَنٌ قُفْرٌ مرابعُها
تليد ماضي الهوى ونائم الشجنِ

يا عينُ جودي بما قد كنت صائنةً
مِن الدموعِ على تذكار ذي الدِّمَنِ

هذى منازلنا وذي مـــنازلنا
وتي منازلنا فـي سالف الزمن

“العينَ” فَـ”النّيرَ” فَـ”انجيْلاَنَ” يا عجباً
صارت مراتعَ أهل البحر والسـفنِ

ومن ظريف ما كنتُ أسمعه مِن حولي من أدب تڭانِتْ أن الأديب ادِّي بن الزين العلوي كان يعملُ في مدينة “أطارْ” حيث اعتادَ أن يتردد فيها على مجلس فيه السادةُ الأعلام محمد صالح (النَّنَّ) بن الشيخ أحمد بن الفاللي ويحَيى انجايْ والد الشخصية الوطنية المعروفة سيدي المختار انجايْ وجليسهم سعيد ديُوبْ أحد موظفي الإدارة آنذاك، فقال:

اصْحَبْ لِذينِ السَّيِدَينِ وجَالِسَنْ
لِسَعيدِهِمْ تَربَـحْ جلِيسًا صالِحَا

يحيَى سعِيدًا صالِحًا مَنْ أصبحَتْ
جُلسَاؤُهُ: يحييَ، سعيدًا، صالِحَا

ومِن تفاعل المُحيط المُباشر مع شخصيات تلك الولاية، تعرفتُ في فترة المُراهقة على قطعتَين للوالد رحمة الله عليه في المُغنية الشهيرة ديمِي بنت آبَّ يقول في أولاهما:

أقولُ لــِ”ديمِ” ما فوقَ الأديمِ
أديمِ الأرضِ شاديةٌ كـَ “دِيمِ”

فتاةٌ طوَّرتْ لحْناً قدِيماً
ففاقتْ في المُطَوَّرِ والقديمِ

إذا غنَّتْ بأنغامٍ حِسانٍ
ألذَّ من المُدامةِ للنَّديمِ

ترى الجُلَّاسَ يهتزُّونَ منْها
كما تهتزُّ أغصانُ النَّسيمِ

فما قِيستْ على الشَّادِينَ إلا
إذا قِيسَ الرياضُ على الهشيمِ

أقيمِي “دِيمِ” أو سِيرِي فنَصْراَ
عزيزاً إن تسِيري أو تُقيمي

ويقول في الثانية :

“ديمِ” فُوزِي برُتبة التَّقديمِ
زادَكِ اللهُ نُصْرَةً يا “ديمِ”

لَكِ رنَّاتٌ ساحراتً لنا مُسْـ
تَولياتٍ على فؤادِ الحَلِيمِ

لَكِ عُودٌ علَّمتهِ الفنّ حتَّى
صارَ يحكي صوتكِ للتَّعليمِ

عَجَباً مِنْ تكليمِ “ديمِ” جَماداً
ليسَ يدْرِي كيفيةَ التَّكليمِ

حادثُ الفَنِّ والقديمُ لها والْــ
فنُّ ما بينَ حادثٍ وقديمِ

وإذا ما شَدَتْ معَ المُطربينَ الْـ
مُتَرَقِّينَ في احتفالٍ عظيمِ

سلَّمَ المُطربون طوعاً وكرْهاً
ما لَهُمْ سُلَّمٌ عنِ التَّسليمِ

رُتبةُ التَّقديمِ استقَرَّت لها يا
“ديمِ” فُوزِي برُتبةِ التَّقديمِ

ما زالت تڭانِتْ تُثير الأذواقْ وتبعث الأشواقْ، يقول فيها أحد الإخوة والأصدقاء مِن قَصيدة لم تُسعِف الذاكرة الآن منها إلا بِبَيتَين يدلان جَمالاً على ما لم تُسعِف به منها …

أنَا بَرْبريٌّ في هواكِ تَجنُّباً
لِمَسالكٍ مَعهُودةٍ ودُرُوبِ

سأُعيدُ للتاريخِ عُنفَ غُزاتِهِ
وتجُولُ فيه بَيارِقِي وحُروبِي

طابَ يومُكمْ.