وطار وزير الداخلية في طائرة مؤجرة الى سيليبابي مرتفعا بذلك عن الدهماء والشعب والمضايقات والشوارع ونقاط الدرك والشرطة وأمن الطرق والحفر والمخاطر والبلدات المظلمة والوجوه الحزينة والأعين الجاحظة،هكذا يضمن المسؤول لنفسه الراحة في سفره والوصول بسرعة،ففي فلسفته ان الوزير النازل من السماء يختلف عن الوزير المغبر المنكس الشعر،وهيبة الدولة تقتضي وصول الوزير بهذه الطريقة خاصة بعد أحداث الركيز التي انتصر فيها الشعب، وان رفضت السلطات تقبل الحقيقة التي اعترف بها والي الولاية وأكدتها الاقالات التي تلت الأحداث..وزير الداخلية من بين جميع الوزراء لايستحسن الحديث عنه ولا التعليق على تصرفاته لأنه يعرف الجميع ويعرف ولي نعمة كل شخص، وكل كاتب وكل صحافي،كما انه يعرف زعماء القبائل ويتلقى منهم مايريد من معلومات عنهم وعن البلدات وسفهائها..ورغم هذه الحقيقة ورغم الخوف الذي لازمنا من وزير الداخلية ومادته الشهيرة (المادة١١) وحكامه وادارات الأمن التي تأتمر بأمره والمناضلين الذين ينتهون لنهيه، الا ان سفره في طائرة مؤجرة اليوم لم يكن موفقا ولايمكنه ان يكون كذلك،كما ان تحليقه بعيدا عن الأرض البائسة لم يكن أفضل رد على أنات المواطنين وأصواتهم المبحوحة ومطالبهم التي لاتصله عادة الا اذا خرجوا الى الشوارع وتحركت الدوريات لقمعهم..
كان بامكان الوزير أن يسافر برا،وان يصادف في سفره سائقا يستجدي أفراد الشرطة ليخففوا عنه الغرامة المفروضة،وان يمر من أمامه كالسهم سائق انتحاري يحمل من الحمولة أضعاف المسموح به،فيتصل على أحد الجنرالات النائمين ويأمره بايقاف وسحب رخصة قيادة السائق المتهور، فينقذ بذلك ركابا كانوا قاب قوسين او أدنى من الموت،كان بامكان وزير داخليتنا ان يواصل سفره بين الحفر لينضم للشعب في صب اللعنات على المسؤولين وكان بامكانه التوقف لشراء قنينة ماء او فخذ خروف وخبز بلدي ليتأكد عبر سائقه من غلاء الأسعار، وكان بامكانه وهو الكادح القادم من مدائن التحرر والنضال ان يظل كما كان قريبا من الشعب لكنه للأسف لم يفعل.
وزيرنا حلق بجناحين في ذكرى عباس ابن فرناس،فكسب السرعة والظهور كرجل أعمال يملك طائرة خاصة،لكنه خسر الاتصال المباشر بالساكنة ومتعة السفر بالبر في موسم خريف ليس بالسيئ.
رسالة الوزير الذي سافر على عجل وكأنه يتفقد ضحايا عملية ارهابية هي ان الساسة لايعانون وان الفقر للشعب، وان الدعة والثراء للوزراء والساسة،فحتى لو سربتم اليوم معلومات بأنه أجرها من ماله الخاص كما فعلتم مع غزواني من قبل الا ان الرسالة وصلت وسيتلقفها الشرفاء وستزيدهم تصميما على النضال من أجل اخراج البلاد من واقع فرضه عليها رجال لايميزهم عن الآخرين الا كونهم دخلوا بطرق شتى أخوية العسكر.
حين جيئ بالوزير لأول مرة الى المدينة نزل من مروحية عسكرية تحركت للحال الطارئ ولم تؤجر من ميزانية الدولة فلم نستنكر،جاء يومها كسندباد بحر،مر من الماء بهدوء وبلل أثوابه ودخل الأعرشة ووقف واستوقف الوزيرة المرافقة وبكى واستبكاها واستبكى أعضاء وفده..وبعد عامين من تلك الزيارة عاد لكن من سماء مختلفة وفي طائرة خاصة ، والذي لايعلمه الوزراء هو ان دخان البطش والتظاهر بالتبذير وتمظهر المسؤولين وتبجحهم أمام الجائعين قد يرفع صاحبه بعيدا جدا، فالمنطاد يرتفع بالدخان الى السماء السابعة، لكن لا أحد يتحكم في مكان وزمان سقوطه..وفي النهاية سيسقط في الحفر والأحراش بين أحذية أصحاب الأعين الجاحظة.