بعد أيام من مغادرة العالم الافتراضي بدأت تدريجيا أستعيد عافيتي ووقتي وعيني وأناملي وضغطي،لكنني فقدت شيئا مهما وهو الحصول على المعلومة قبل تنميقها من مختلف مدارس التنميق والاخبار في بلاد الكلام..وفقدت وهذه أهم من الأولى أناسا رائعين صادقين يحلمون بميلاد وطن، وتوزيع عادل للثروة ويصدقون ببراءةٍ الكتابَ والشعراءَ والصحافيين ومن يجب نعتهم بأنهم معارضون ومناضلون حتى في ذروة انبطاحهم ونفخهم تحت أثافي مرجل يغلي بأحلام الشعب..
لم يكن الأمر سهلا خلال اليوم الأول والساعات الأولى لكنه بدأ يسهل مع الوقت.
سيتساءل الكثيرون ماذا ربحت من ابتعادي؟ وسيتساءل آخرون بالطبع ماذا خسرت،والحقيقة هي انني لم أربح الشيئ الكثير لكنني البتة لم أخسر كليا،فقد ربحت ذاتي وانتفى لدي الحضور الطاغي لأشخاص  سيظلون لأعوام المتحكمين في مصيركم ومصيري كمواطن لهشاشة الحكام الجدد وخوفهم من الألسن والأصابع..ورغم ذلك ابتعدت عنهم وتركت لهم المسلخ الذي يسلخون فيه الرئيس والجمهورية والوزراء بالابتزاز والتدوين أو عبر ارسال رنة او بذاءات او وعد بنشر مادة دسمة ومهمة يسارع بعدها أقارب المستهدف وأنصاره بايجاد المعني وترضيته بالهدايا والأموال والسيارات والقطع الأرضية لأنه صاحب الصفحة الافتراضية..كم هم تافهون!!
انه من غير المعقول متابعة جنرالات ووزراء ورجال أعمال الدولة وهم يحركون ويهيجون الرأي العام عبر أقلام الفيس العجيب، فماطالعتنا كتابة من أحد الافتراضيين الا وأدركنا متى وكيف ولماذا قرر الجنرال نشرها وحجم الحملة التي قرر مواكبتها لأحرفها، والزخم الذي يريده لها..جراد المدونين من صحافة وأصحاب صفحات لايهتم لمصلحة البلد وانما لريع التدوين والتخويف والتهويل وتمجيد الآثمين وضرب واخصاء خصومهم، وبذا يوفر هؤلاء لجنرالات الورق ووزرائه مادة تصلح لأن تكون ملح سهرة أهلها جميعهم لا يتقنون القراءة ولا التفكير وانما يستكنهون المعاني من ظلالها ومن رجعها حين تلوكها ألسنة السفسطائيين والباحثين بصفة يومية عن طعام ولبس ورقص بالمجان.
ان توزيعنا في الافتراضي للاعجابات والتعليقات هو قوة الدفع التي ترسل هذه الصواريخ الى أهدافها والتي ليست شيئا آخر غيرنا، نعم فنحن الهدف الحقيقي لكل مقايضة وابتزاز لأننا الشعب الذي ينتظر الصدقات من خيراته ومقدرات أرضه.
نحن المتضررون من هيمنة هذا التيار الجارف الذي مطط أسوأ ممارسة للصحافة (البشمركة) ومكنها وسهل تنفذها ومنحها ترسانة الافتراضي الضعيفة عند الشعوب الأخرى المرعبة عندنا، وبذا تضاعف عدد البشمركة وتناسلوا في الصفحات فحار القرويون ثقافيا ودهشوا وصاروا يتجولون بين الصفحات ويبصون في كل اتجاه كأنهم يدخلون بيجين لأول مرة، وطبعا يصدقون كل مكتوب لأنه مطبوع تماما كما كان أسلافهم خلال الأيام الأولى لظهور المطبوعات، فلو قرأ الأسلاف لسلمان رشدي آياته الشيطانية أعوام الاستقلال لكفروا جميعهم وان بدون قصد، اذ الآلة الطابعة لم تكن لتكذب أيامها..لن يكلفوا أنفسهم عناء البحث ولا التدقيق والتنقية فملكة التجريد في الافتراضي معطلة والوطاب النقدي صفر لحظة الجلوس أمام الخشبة.
في هذا الفلك الغريب يقضي أحدنا ساعات يومه فينشغل عن كل شيئ بلاشيئ، ثم يخرج للحظات وقد ترسخت في ذهنه قسرا فكرة ان الرجل الفلاني نزيه وشفاف لأن المدون الفلاني يكثر من الثناء عليه وبأن خصمه سيئ ووضيع لأن آخرين وصفوه بتلك الأوصاف..العارف بجميع هؤلاء وحده يتألم ويصاب بجلطة أو لوثة ذهنية ألف مرة في اليوم ،اذ يعرف حقيقة مايجري والصفقات التي تعقد والمنافع التي يجنيها الكاتب من كل حرف رماه على صفحته..العارف بالحقائق يدرك بأن نخبة البلاد منحت صك غفران أبدي للحاكم وعصابته، كما وقع قادة الرأي على بياض للرجل الطيب مقابل تعيينات ومِنح وأعطيات أو”اعتبار” كما يسميه الطيبون وهم يزاحمون بلطف للاحتفاظ بأمكنتهم في الطابور.
“ولد الغزواني سجن ولد عبد العزيز واستعاد أموال الشعب”!!
أين أموال الشعب؟
وأين المحاكمة التي ننتظرها جميعنا لنعرف منها من أدخل يده في جيوبنا ليأخذ مالنا ويسلمه للرئيس، ومن حرسه، ثم من دعمه، ومن سكت وصمت حين رأى العملية!!
بل أين التحقيق،ولماذا لم يمثل عزيز أمام القضاء؟
أين غزواني من كل ماحصل، وما لا يحصل الآن:فأين الانجازات؟ وأين تلك المنشأة التي سنقول بعد أعوام إنه أقامها، وأين الشوارع التي كنا سننتظره على أرصفتها حتى يحملنا الى الرقي والازدهار متى صادفنا واقفين عليها؟
أين كل شيئ؟
حتى العصابة الجديدة توارت بالمسروق، فلم تتصدق على البؤساء ولم تنثر الأوراق النقدية على راقصة ولم تطعم قطة ولا بغيا ولاعابر سبيل.
انه القتل البطيئ للشعب الفقير ونفخ البطون لأصحاب الأسماء المشعة، وأصحاب المشعة فقط دون غيرهم، فالدعوة ليست عامة ولايمكنها ان تكون، كما هو حالها دائما.
والفيس في كل هذا هو الاعلام الحكومي، هو ابرافدا، والجمهورية وصيحة البطون ..الفيس هو الذي تنتظرون منه اقناعكم بأن الحوار سيكون مهما، هذا الحوار الذي سيشارك فيه ويقرر عنا خلاله أناس عرفناهم في جميع الأنظمة وهم وقود نارها، وآخرون كانوا يستنشقون دخان النار باسم الشعب لكن أيديهم لم ترتفع عن القصاع الا لتعود اليها..ليسوا فاعلين لكنهم يحظون بكمية من النصب طالما منحتها الأنظمة الفاعلة لمن قبل بدور المفعول به والذي يتحول في ارتقائه الى نائب فاعل ولايريد أن يكون فاعلا أبدا، بل يفضل البقاء كنائب فاعل ففي النهاية سيحسب فعله للمجهول.
صورة الحوار التي تناقلها الناس كانت مؤلمة فالسياسيون عندنا يدخلون المشهد بالدفع الثنائي، عبر أرجل مغبرة وينتهي بهم الحال بدفع رباعي وارتفاع عن الشعب وتكييف بعد تعرف على الآثمين وربط صلات بهم، وبهذا يكون هذا الحوار حوارا داخليا بين مختطفي الشعب وآخرِ الداخلين في الطبقة.
سيتطرق الحوار او “الخرطة” ربما لكل المشاكل لكنه لن يحل أيا منها وستوزع خلاله الأطعمة و الوعود من أجل المباركة وستتولى فيالق التواصل الاجتماعي مدكم بالمخرجات كمدخلات حيوية تُتناول من الخلف ودون ان تمر بالفم حتى لاتُلفظ وحتى لاتمنحها العيون وصفها الحقيقي.
بعد أيام ستبتلعون من أي مدخل نجاح التشاور لأن الافتراضي يريد ذلك لكن حين تعودون الى بيوتكم ستكتشفون بأن شيئا لم يتغير وبأن الارث الانساني سيظل مطروحا وبأن العبودية ستتمكن وبأن الفقر سيتسع..الشيئ الوحيد الذي سيتغير هو تراجعكم عن الاعجاب بمايكتبه الجنرالات والوزراء لمدة أيام كنوع من الامتعاض،قبل ان تعودوا لتقوية حلف الشيطان الأزرق.
لاجديد في هذا البلد..طفل لايكبر بسبب الجوع وكهل سياسة لايموت بسبب ارتكاب الخطيئة في حق هذا الشعب.