بعد الزيارة التاريخية للأمير الكويتي الراحل لانواكشوط عام ألفين وستة عشر بدا واضحا أن الكويت غفرت خطيئة دعم موريتانيا لاحتلالها عام تسعين، كما بدا واضحا أن المال لن يكون مسألة خلاف كبيرة بين الأمير الراحل الشيخ صباح الجابر والرئيس المتحمس عزيز، وهكذا بدأ التفكير في حل مشكل تلك الأرقام التي لايأمل الكويتيون استعادتها حتى بدون فوائد، فعلى هامش زيارة عزيز للكويت إبريل الفين وتسعة عشر تم توقيع وثيقة الاتفاق، فلماذا نطبل اليوم للحدث وكأنه ميلاد أمة أو استقلالها؟
،أليس مريبا أن تكتب بعض المواقع المهنية عن الموضوع دون ان تكلف نفسها عناء العودة للخلفية والخطوات الأولى للاتفاق؟ مع العلم أن أرشيف هذه المواقع يحتفظ بتغطيتها للأمر وبحماس زائد حين كان عزيز رئيسا للبلاد والفاعل الأول فيها!!!
لن يعترض أحد أو ينتقد مثل هذه التصرفات لأن الجميع متفقون على ترتيبات قانون الطوارئ المتعلق بالتعامل مع الرئيس السابق!،
دين الكويت هذا أو ذاك لم يكن أكبر هواجس هذا الشعب المغيب عن شأنه، وعادة لايتحدث عن هذا الدين والديون الخارجية بصفة عامة إلا من أكلوا من القصاع أو يبحثون عن ديون جديدة ومصداقية جديدة ليأكلوا منها وبها من جديد، فهذا الدين شأن يخص أبناء الذوات وعلية القوم من ملاك البلاد والمستفيدين الأبديين من غلتها.
الدين بالنسبة لنا كموريتانيين بؤساء في وطنهم ونحن الأكثرية هو الداخلي، والداخلي جداً، وهو الدين اليومي الذي يتكرم به على كل واحد منا صاحب الامبراطورية التجارية الأقرب لمسكنه، والتي يرأسها “مول البوتيك” و”الوقاف” الذي عادة يكون ابن عم له لكن من المرتبة الثالثة، وهذا الدين لايقلقنا ولنا معه طرائق عديدة، منها رفع طرف الدراعة لتغطية حافة الوجه والهرولة عند المرور من أمام المحل، أو إخبار البطرون بحركة استباقية عن مطر سيغيث ذويه بحسب الانترنت والحاسوب الخارق وبأنه لن يبعث الكرتون كعلف بعد اليوم، وأحيانا يكون لزاما عليك مجالسة “الواقف أبدا” وتقبل حكه وفركه لفروة رأسه، ومسحه البصاق على قدميه وإبداء الإعجاب بطريقة طهيه للشعرية البيضاء جدا.. وفي حالات كثيرة نتحمل تأوهات مخاض زوجته البلدية حين تزور كنيفنا للمرة الثانية في اليوم، فالأولى كانت بغرض التسخين فقط.. تلك ضريبة التأخر في السداد.. في النهاية “لاشيئ أكبر من قدره” قبل أن يغضب، وحتى لو غضب صاحب المحل وطرد ابنك الجالس على خنشة الأرز بعدائية كنوع من الاحتجاج على زيادة وريقاتك في الدفتر إلى ثمانية فلك أن تلعب على عدم احترامه للطفولة وعدم المروءة و النبل في القتال إلى آخره.. إننا نحل مشاكل الديون هذه بطرق مختلفة وعادة لا تقلقنا إلا حين يدخل رسول صاحب البوتيك بيتنا مرتين متتاليتين، فهنا نتوتر ونستعيد الكرامة بالقول: “إذهب إلى المفوضية وهناك سأدفع لك عشرين اوقية كل شهر؛ وستدرك بأنني من قوم يعرفون القضاء ويشترون النزاعات” إلى غير ذلك من أنواع الوعيد الكاذب الذي يختلف أسلوبه من قبيلة لأخرى، ولأنه عادة عديم ثقافة أو مدنية سيفزع ويعدل عن مقاضاتك لكن مع امتناع عن مدك باحتياجاتك العاجلة، حتى اذا مررت من أمامه مرة متأبطا كيس معكرونة متوسطة جلبته من جهة أخرى بادرك بالسلام والابتسام و اعتذر وربت على كتفك ومسح رأسه: كان بإمكاننا أن لانصل إلى هذه المرحلة لكنه الشيطان.. نتفق ضمنيا على أن الشيطان هو السبب ونتصرف كملائكة، فيعطى حلوى “بطن البطرون” للطفل ثم يكتب والعرق يتصبب من جبينه الكلمة السحرية “حُول” وهي الكلمة التي يبحث عنها نظام اليوم وكل مماطل أو مسوف “طويل الظهر” كما يقال، فبها سيفتح لك خطا آخر للدين.. إنهم يغارون من بعضهم ونحن نستغل الأمر لصالحنا إلى إن يفرج الله، وغالبا ما تنتهي الأمور بودية ودون مشاكل.
هذا هو الدين المقلق حقا بالنسبة لنا، أما مليارات جلبت على مراحل من دولة الكويت فلاتعنينا كشعب، فقد صرفت في شقق لاس بالماس وملاهيها، ودرس بها الأولاد في المدرسة الأمريكية والفرنسية و “أمل أو شمس الدين” ثم صرفت في الجامعات الأوروبية بعد ذلك لتكوين جيل الطبقة الجديد.. بهذه الأموال حوربت سعادو و تم شراء السيارات والبواخر والقصور، وألبسة النوم المثيرة والعطور والذبائح والميك آب، ونعومة الملمس والابتسامات المرتبة، وأدوية الضغط حين كان الضغط بالنسبة لنا تعبا ويزول.. عولج بها سكري الساسة، ودفع منعا لمختبرات العالم في فترة كان الفحص الوحيد الذي نعرفه هو الأنبوب الصغير الذي يحمله أحدنا الى الماجور وجسده يقشعر خجلا لأنه فضلات أو عصارتها.. لقد كنا بسطاء مغيبين حين اقترضوا باسمنا ثم صرفوا، وجاء بعدهم أقوام واقترضوا وصرفوا وهكذا هو الحال دائما، وحين لم يدفعوا جميعهم واكتشفوا أماكن أخرى قابلة للاستدانة كان عداد الفوائد قد شرع في الصعود.. فليصعد إلى السماء مع الأرواح التي استفادت منه باسم الشعب وعلى حسابه.
غلبة الدين لم تكن محرك السلطات للكذب علينا والقيام بحركة سحرية لإيهامنا بأنها تحركت، بل قهر الرجال هو المحرك الذي جعل رئيسنا يسارع الخطى للقيام بشيئ، فقد قهره من يحفونه وصيروه صفرا في السالب لكنه طيب، واهتموا هم من دونه بنشر بيادقهم وملء حساباتهم المصرفية بالمال وحساباتهم الافتراضية بالكذب والتجييش وتوزيع المضاد الحيوي الذي بدأ يفقد قوته وهو اننا “سنحاكم عزيز، ونسترجع مال الشعب ونتحول إلى مصلحين فقد تبنا من جنينا في العشرية وكنا مع الرجل تقية و “إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان”.. لم نكن معه كسمية اوياسر لكننا كنا معه كالصحبي الجليل عمار، فاحذر أيها الشعب أن تنضم للباغية”.
كانت السفرة الروحية الأخيرة بداية لانتعاش الآمال في منطقة الخليج حيث اعتقدوا بأن مجرد السفر إلى هناك سيمنح صاحبه مليارات الدولارات، ولأن شيئا لم يتحقق ولأن الرجل عاد للشعب بخفي حنين ولخواصه بالهدايا والشراكات المستقبلية دله أحد قاهريه على صفحة من صحيفة قديمة تتحدث عن اتفاق بين الكويت وموريتانيا بشأن الدين وفوائده فأمرهم بتسريع التوقيع الذي طالما انشغل عنه هو وأصحابه بملف القرن الذي لن يبدأ أبدا حتى لاينتهي، فيجب ان يظل ملف شريكه السابق ذاك في الحكم- بخير الحكم وشره- شماعة يعلق عليها الجميع إخفاقاتهم وحصان طروادة يركبه المسافرون إلى قلب الزعيم ومشاعره، وربما يركبه أيضا الماضون لقلب الرئيس حين تنتهي آجال الوعود العامة والخاصة.
لقد فطن المواطن البسيط للخدعة فبات كل متهم في قضية مرتبطا في دعواه بعزيز او بأقارب عزيز أو بزوجته أو بفترة حكمه.. نعم لقد بعت الدواء المزور لكن ذلك كان في عهد عزيز..سرقت من بيت، لكن النائم فيه كان يعلق جدارية لعزيز ولاشك أنه أحد رجاله.. سأخرج في حظر التجوال فأنا أكره عزيز وأحبكم حبا جما ياحكامنا الطيبين.. قد يبدو الأمر سخرية زائدة لكن فقط إرجعوا إلى آخر ملفات العدالة وتصريحات بعض المتنازعين أو المتهمين، وستلاحظون بأن بعضهم يحاولون ربط ملفاتهم بعزيز بطريقة ساذجة لكسب تعاطف السلطة من جهة ولمنحها من جهة أخرى لبنة تنضاف للبناء التافه الذي لن ينتصب أبدا.
إننا شعب عانى ويعاني من عصابة حكمته ومازالت تحكمه، والغريب أننا في كل مرة نعتقد بأن نظامنا الحاكم سيصلح قليلا حتى يختلف عن سابقه رغم تماهيه معه وخروجه من مشكاته، لكن لايحدث ذلك أبدا، فلاهم أذكياء بدرجة التغيير ولو في ظل النظام نفسه، ولهذا وبنفس الأسباب والوسائل سيرحلون كما رحل أسلافهم في القصر البئيس.