د. سيدي ولد التاه مسارٌ شخصيّ في الغالب، تضافرت فيه الإرادة الذاتية مع الاجتهاد في التحصيل والعمل، ورافقته بعض المصادفات والفرص التي جعلت منه حدثا يخطف أنفاس الموريتانيين جميعًا، حتى أولئك الذين لا يدركون دور البنك أصلًا، أو لم يتبلور لديهم وعيٌ بانتماء موريتانيا الإفريقي، فضلًا عن فهم عميق لأهمية هذا المنصب أو مردوده على الوطن. ورغم ذلك، تابع الجميع تلك اللحظات وتفاعلوا معها كما لو أنها نهائي كأس أمم إفريقيا أو تتويج شاعر موريتاني بلقب “أمير الشعراء”.

حلّلتُ هذا الشعور، فوجدتُه جميلاً في لحظته؛ لحظة اتحاد شعبي، واحتضان جماعي، وابتسامات عفوية، وفخرٍ عام، وتناسيٍ جماعي للاختلافات، فقط لأن علم موريتانيا واسمها كانا مرفوعَين في تلك المناسبة. حينها تساءلتُ: كيف يمكن أن نبني مختبرًا أو مزرعة تنتج لنا هذا الشعور بشكل دائم؟ 

لأني أرى أننا متفهّمون لأهمية الدولة الموريتانية ولمّا يدخل الإيمان بها في قلوبنا لينعكس على تصرفاتنا جميعا من جعل القمامة في مكانها إلى جعل الإمامة في مكانها.. 

خلصتُ إلى أن تبني مفهوم “الدبلوماسية التخصصية” هو رهان حقيقي لإنتاج هذا الشعور بشكل مستدام، ليس فقط في بُعده العاطفي وتعزيز الحس الوطني، بل عبر تراكم الخبرات وتلاقحها بين مواقع التنفيذ وفضاءات القيادة العالمية، بما يجعل منها خيارًا استراتيجيًا لإقلاع تنموي شامل.

تتلخص الفكرة في البدء بتكوين متخصص في مجالات التفاوض والعلاقات الدولية، يليه تدريب في الإدارة والتسيير البشري، ثم العمل على بناء ما يسميه الفيلسوف السيد ولد أبّاه “السردية الوطنية الموحّدة للتاريخ”. بعد ذلك، تُحدَّد أهداف وطنية كبرى وثوابت جامعة، ويُدرَّب عليها الشباب، مع اعتماد مبدأ لامركزية القرار، ومنح هامش واسع من حرية التسيير للموظف العمومي، شرط وجود رقابة إدارية ومالية يقظة.

كل ذلك يجب أن يُرافق بتشجيع الابتكار والإبداع من التكوين إلى التوظيف، لتمكين مؤسساتنا من إقامة علاقات مباشرة مع نظيراتها في دول العالم، ودعم هذا التوجه، وتبادل الخبرات، وعرض التجارب للتحسين المستدام، مع تمويل هذا الانفتاح وتوسيعه.

في هذا السياق، كنت قد اقترحتُ برنامجًا وطنيًا “رئاسيًا مثلا” لتكوين القادة الشباب، يتم فيه الاختيار عبر آلية مؤسسية دقيقة، ويُتابَع خريجوه بشكل منهجي بحسب تخصصاتهم واهتماماتهم، مع تنظيم مؤتمر وطني سنوي للشباب، وتأسيس هياكل لتنفيذ مخرجاته. ويمكن الاستفادة من تجارب قائمة مثل Mandela Washington Fellowship الأمريكية، أو البرنامج الرئاسي لتأهيل القادة في مصر، وغيرها، دون استنساخ، بل مع تكييفها مع خصوصيتنا وسياقنا المحلي وثقافتنا وقيمنا.

تكمن إحدى الركائز في تحويل علاقات الدولة نحو البُعد الأفقي، بحيث تُبنى الروابط بين المؤسسات والهيئات بدل الاقتصار على علاقات وزارية عمودية. ورغم تعقيدات التنسيق البيروقراطي، فإن هذه الديناميكية ستُسهم في تعزيز الحضور الموريتاني على الساحتَين القارية والدولية، وتحليل مواقفنا بعمق، والتأثير في التوجهات الكبرى، وتوجيه قرارات المنظمات الدولية نحو مصالحنا ما أمكن.

وقد شهدنا في تجربة د. سيدي ولد التاه مثالًا ناجحًا على هذا التوجه، حيث حظيت فكرته بدعم رئاسي صريح، وتمّ توفير كل الوسائل الممكنة لإنجاحها، ما أكسبها اهتمامًا واسعًا من طرف غالبية الشعب. غير أن هذا ليس دائمًا هو الحال؛ فبعض الموريتانيين يحققون نجاحات لافتة في صمت مطبق، ويصعدون إلى منصات التتويج وسط تصفيق من أيادٍ أجنبية بالكامل. منهم من تولّى رئاسة هيئات أممية مرموقة، ولكن دون أن يُستفاد فعليًا من تجاربهم بعد نهاية مهامهم.

أستحضر هنا موقفًا خلال زيارتي لمقر مجموعة البنك الدولي، حين لفت انتباهي تعليق موظف موريتاني عن زملائه من إحدى دول الجوار، حيث تحدّث عن حرصهم على لعب دور إرشادي واضح داخل المؤسسات الدولية، وعن سعيهم الحثيث لفرض تمثيل وازن لأبناء بلدهم في كل منصب، وتسهيل ترقياتهم عبر دعم مباشر من المسؤولين في وطنهم.

كما أذكر كيف أن بعض المشاركين من دول أخرى في البرامج الدولية التي جمعتني بهم، حظوا باستقبالات رسمية بعد عودتهم من مشاركاتهم، سواء ضمن برنامج “مانديلا واشنطن”، أو في قمم مثل HLPF في الأمم المتحدة، أو عبر برامج تفاوض المناخ التابعة للاتحاد الإفريقي. هذا النوع من الاعتراف الرسمي والتثمين المؤسسي، وتكريس النموذج الإيجابي، يُعد هو الآخر عنصرًا حاسمًا يجب أخذه في الحسبان عند بناء منظومة دبلوماسية تخصصية فعالة

سيؤدي هذا التراكم في النهاية إلى بروز شخصيات وطنية قادرة على كسب رهانات إفريقية ودولية، وجعل موريتانيا منافسًا وازنًا على ساحة القرار العالمي.

تحدّثتُ من واقع تجربة بسيطة في الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة وبعض المؤتمرات الإقليمية والدولية.. وهي طبعا فقيرة بالنسبة لشباب من دول أخرى تهيأت لهم ظروف وطنية مختلفة ولكنها كانت مهمّة لرؤية مكامن الخلل التي تخجلك من كونك موريتانيا أحيانا والتعرف على مواضع الفرص والفرص الضائعة. 

أرجو أن تتغذى هذه الأفكار من تعليقاتكم وملاحظاتكم، فتنضج وتنمو، لعلّها تلامس أذنًا واعية وقلبًا غيورًا.

انواكشوط 29.05.2025

د. عبدالرحمن سيدالمختار

#تبصير_سياسي