ترجمة مِن الفرنسية إلى العربية
(الجزء الأول)
عز الدين بن ڭراي بن أحمد يورَ
يعودُ دخولي إلى المدرسة النظامية إلى بداية شهر مارس مِن سنة 1963، في اليوم الثاني أو الثالث من الشهر، لم أعُد أتذكر، أما الباقي، فأتذكره بدقة كما لو أنه حصل بالأمس، كان ذلك في قرية “ابير التورس” الواقعة على بعد 12 كيلومتراً غربَ “المذرذرة”.
لقد اتخذ والدِي قرارَ تمدرُسي بشكل انفِرادي، بعد أن استسلم لضغوط قوية مارسها عليه بعض أصدقائه، وبالأخص الأمير محمد فال بن عمير، الذي لم يفتَأ، مِن مَنفاه بالمغرب، يبعث إليه برسائل مكتوبة وبتوصيات شفوية، يُوعِزُ إليه فيها بتحضيري لمُستقبل مُختلف عن مُستقبله …
لم يكن مَن هم حولِي يُوافقون على هذا القرار، وخاصة عمتي المرحومة: مريم بنت امْحَيحَمْ التي تبنَّتني منذ طفولتي الأولى واعتبرتني من خصوصياتها. لقد سبق اتخاذَ هذا القرار نقاشاتٌ صعبة وطويلة. كان مُخيمنا يتنقل حول “أبي تلميت”، وبالتحديد بينَ بِئْرَيْ: “وحيتُو” و”تِيفِكِّين” …
كان عليَّ إذن أن ألتحق بمدرسة “ابير التورس” حيث تُوجد أحد أقدم المدارس الريفية. لم يكن اختيار “ابير التورس” وليد الصدفة، فقد كان غالبية أهلي وأقاربي يُقيمون هناك منذ عدة عقود، بعد أن استقروا طويلاً عند “احْسَيْ همَّادْ” و”احْسَي عَمِّي”.
أثارت لحظةُ رحيلي مشاهدَ مُفعمةٍ بالمدامع والعناق، كما يحصل في أشهر الفِراقات التي شهدها هذا القرن …
ما زلت أتذكر نساء الحي، وفي مقدمتهن عمَّتي، يركضن حلفَ الجَمل الذي كان والدي يأخذني عليه، وهن يُلوِّحن بأيديهن اليمنى، في إشارات دائرية وأفقية، كانت تلك طريقتهن لتحصيني بتعويذات مُرتجَلة وإلقاء نظرة أخيرة على شخصي الصغير وهو يُغادر إلى العالم الآخر …
استغرقت الرحلةُ أربعة أيام … في اليوم التالي ليوم وصولنا، اصطحبني والدي إلى المدرسة، وكانت تبعد كيلومتراً ونصفاً مِن الحيِّ الذي نزلنا فيه …
كان الحَيُّ الذي نزلنا فيه، والمُسمَّى “آسْكَيرَهْ”، يتكون من نحو عشرين خيمةَ، بما فيها خيمة جدتي المَهيبة: السيدة/عيشَ بنت مانُو …كانت تسكن مع “عيشَ” والدتُها: المعلومة بنت الميداح، وهي شخصية مرموقة في بلاد “اترارزة”، معروفة بتقواها واعتنائها بالمُحتاجين …
لقد اختارُ مُؤسِّسُو “أسْكَيرَه” هذا المكان البعيد عن القرية، لتفادي رائحة الدخان، وللاستقرار بشكل دائم، بعد فترة طويلة من الترحال، دون الانقطاع عن المُتَع التي توفرها الحياة البدوية …
كانت “آسْكَيرَه” معقلَ اثنَين بارزَين من أبناء الشاعر الشهير والشخصية المتعددة الجوانب: امحمد بن أحمد يور،َ وهما : أحمدو بابَ وشماد.
أما القرية الكبيرة (لِفريڭْ كما يُسمَّى محلياً)، فكانت تتكون من نحوِ ثلاثين منزلًا مُشيَّدا وعددٍ قليل من الخيام. هنا، كان يقيم القاضي الشهير، قاضي المذرذرة الفخري والعالم الكبير: محمذن بن محمد فال المعروف ب”امَّيَيْ”.
في المنتصف بين “آسْكيرَه” و” لِفريڭْ”، إلى جهة الشرق قليلاً، كان يوجدُ بيت رماديٌ كبير، يقع على مُرتفع من الأرض، ويُطل على بعض الخيام، التي لا يخفى ارتباط أصحابها بسَيِّد المكان.
إنه مَجالُ أحمد سالم بن سيدي بابَ، وهو شخصية محلية مرموقة، قيل إنه يمتلك قوى باطنية، بما في ذلك القدرة على ترويض الجن، وغيرها من الظواهر غير المرئية.
تُوجد المدرسة عند المدخل الجنوبي لِلقرية “لِفريڭْ”، وهي عبارة عن منزل مُكون من غرفتين تم بناؤه في الأصل ليكون مسكنا لعائلة من عدة أفراد. إنه منزل “أهل القَرَشي”…
كان يدير المدرسة مُعلمُ اللغة الفرنسية: أحمدو يسلم بن معاوية، وكان رجلاً مهيبًا، يمشي في انحناء، تارة إلى اليمين، وتارة إلى اليسار، على طريقة عظماء الصحراء … كان أحمدُّو يسلم يُدرِّس القسم الابتدائي الأول (CE1) بينما كان يُدرِّس القسمَ التحضيري الأول (CP1) شابٌ يُدعى “فال عليون”، وكان يُدرّسُ اللغة العربية في القِسمَين ڭرَّاي بن أحمد يورَ، وهو شخصية ثقافية ودينية كبيرة في المنطقة.
بعد أن قدَّمني والدي للمدير، همَس لي ببِضع كلمات تشجيعية ليختفي ويتركني وحدي في مواجهة المصير. لم أكن مستعدًا بما فيه الكفاية لهذا الاختبار، لكنني لم أشعر بالخوف في تلك الصبيحة.. ربما كنتُ مُطْمَئِنّاً لوجود أخي الأكبر، الذي كان يُلَوِّح لي بيده من خلال نافذة الفصل المجاور..
كتب مدير المدرسة شيئًا ما في دفتر ذي غِلاف أزرق قبل أن يُدخِلني في فصل المُبتدَئين …
يتواصل …
عز الدين بن ڭراي بن أحمد يورَ