Financial afrik

في زقاق رملي ببلدة “المذرذره”، الواقعة جنوب غرب موريتانيا على مشارف الحدود مع السنغال، نشأ سيدي محمد ولد التاه، فتى هادئاً، فضوليّاً، يعشق الأسئلة وفهم ميكانيكيات العالم. واليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، يُتداول اسمه في ردهات كبرى مؤسسات التمويل الإفريقية، مرشحاً بارزاً لرئاسة البنك الإفريقي للتنمية في انتخابات مايو 2025، ليكون بذلك أول موريتاني وأول شخصية من دول الساحل تُقدم على هذا المنصب الرفيع.

لا يحبّذ ولد التاه الأضواء ولا يسعى لخطابات براقة أو حملات إعلامية ضخمة. لكنه، كما يصفه المقرّبون، رجل يجمع بين عمق الرؤية ودقة التخطيط، يتقن العربية والفرنسية والإنجليزية، ويجيد البرتغالية والإسبانية، ما سمح له ببناء شبكة علاقات دبلوماسية ومالية تمتد من الخليج إلى العواصم الإفريقية والغربية.

خلفية أكاديمية رفيعة ومسيرة صلبة

وُلد عام 1964 في المذرذره ، ودرس الاقتصاد حتى نال الدكتوراه من جامعة نيس بفرنسا، ثم تابع دراسات عليا في جامعة باريس السابعة، قبل أن يلتحق ببرامج تنفيذية في هارفارد ولندن.

بدأ مسيرته في البنك الموريتاني للتنمية والتجارة عام 1984، ثم التحق بلجنة الأمن الغذائي، وسرعان ما أصبح مديراً مالياً لبلدية نواكشوط في سن 23، ومستشاراً لمدير ميناء العاصمة.

محطات دولية وخبرة واسعة

في عام 1996، انطلقت تجربته الدولية عبر المنظمة العربية للاستثمار والتنمية الزراعية في الخرطوم، ثم في البنك الإسلامي للتنمية بجدة، حيث تميز في مجالات التمويل المهيكل والشراكات العابرة للحدود.

عند عودته إلى موريتانيا عام 2006، عُين مستشاراً اقتصادياً لرئيس الجمهورية، ثم وزيراً للاقتصاد والمالية بين عامي 2008 و2015. خلال هذه الفترة، قاد إصلاحات مالية عميقة وجذب استثمارات هامة في البنية التحتية من دول الخليج والصين.

رئاسة (BADEA): نقلة نوعية

في 2015، تولى رئاسة البنك العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا (BADEA)، وهي مرحلة محورية في مسيرته. تمكن من رفع رأسمال البنك من 4.2 إلى 20 مليار دولار، وأشرف على تمويل مشاريع تجاوزت 11 مليار دولار في قطاعات البنى التحتية والطاقة والتعليم.

اعتمد ولد التاه في إدارته على رؤية تستند إلى شراكات استراتيجية فعالة، وتوسيع رقعة تمويلات البنك، خصوصاً في الدول الهشة والمناطق الحدودية، ما عزز صورة البادئة كمؤسسة تنموية رائدة في إفريقيا.

طموح رئاسي بإجماع هادئ

ترشيحه لرئاسة البنك الإفريقي للتنمية لم يكن مفاجئاً في أوساط المال والأعمال، لكنه جاء محمولاً بتقدير عالٍ لمسيرته، ولنهجه العملي الذي يوازن بين التقنية والرؤية الاستراتيجية.

لا يملك سيدي ولد التاه جاذبية النجوم، لكنه يملك شيئاً أكثر ديمومة: القدرة على البناء بصمت، والعبور بالصفقات الحساسة من وراء الكواليس، مع حضور محوري في النقاشات الإفريقية-العربية حول التنمية والاستثمار.

في مايو 2025، قد يسجل التاريخ صعود أول موريتاني لرئاسة واحدة من أهم المؤسسات المالية في القارة، مدفوعاً بسيرة حافلة، وشخصية واثقة، وثقة عابرة للحدود.