كما وقع في مؤتمر الحوار العربي الثوري الديمقراطي الذي ترعاه ليبيا. وفي المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي بالسودان اصطدم في نقاش حاد بالمحامي نجيب الشابي –أمين عام لحزب اشتراكي تونسي- ودار بينهما حوار حاد حول “صدق الاسلام” في التعامل مع الديمقراطية كمعطى للتداول السياسي..
كان في تصور المحامي أن الاسلاميين يتعاملون مع الديمقراطية بغير اقتناع، وحتى لو افترضنا جدلا أنهم يؤمنون بالديمقراطية فقد ظلموا الاسلام لأنه غير قابل – نتيجة لميكانيزماته الداخلية- للتعايش. أما جميل منصور فيرى أن هذه “المحاكمة” غير منصفة لأنها مبنية على رجم أو أحكام مسبقة، بينما علمتنا التجربة أن جل التيارات حكمت ولم تطبق الديمقراطية؛ وبالتالي كان من اللازم أن يشملها الحكم. وقد دافع ولد منصور عن تياره بحجج كثيرة من بينها أن الاسلاميين يؤمنون بالصراع الفكري مع أي أحد، ولو كان جائرا، فالاسلام متسامح ويفضل الوسائل السلمية.. ولم يكن مبدأ القتال في الاسلام إلا وسيلة للدفاع عن الفكرة وليس لرفضها. وهو يورد في هذا السياق قوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم}.
ورغم أن من بين الاسلاميين من يرفض الديمقراطية، إلا أن التيار الوسطي يتعاطاها باقتناع، وليس التخوف من الاسلاميين ورفضهم –سواء كأحزاب أو غيرها- إلا تشجيعا للتطرف الديني. وقد قدم جميل منصور مثالا على انفتاح القوى الاسلامية وقوتها على استقطاب حتى “الآخرين”؛ فحزب الوسط الذي تقدم به بعض الاسلاميين في مصر من بين مؤسسيه مسيحيان، فيما طلب مائة من المسيحيين الانضمام إليه، وجاءت فتاوى عدة علماء بجواز ذلك؛ إذن حتى المسيحيون يرون في النظام الاسلامي مجالا للتعايش مع الأديان. وهذا ما يقصي العلمانية (فصل الدين عن الدولة) لأن مفهوم الذمة في الاسلام واضح في هذا الشأن.
سجين الحلقة يرى أيضا أن شرط الديمقراطية الوحيد هو إيجاد ناظم حضاري بغض النظر عن الثوابت: الإقتراع، التداول، احترام الرأي الآخر ولو كان أقلية. هذا الناظم يمكن أن نفهمه أكثر إذا تذكرنا أن إشكال الحجاب في فرنسا طرح باعتباره إخلالا بالقيم العامة للدولة، وفي أمريكا لا تكاد تسمع عن غير الديمقراطيين والجمهوريين لأسباب تتعلق بهذا الناظم.
“مع كل تحقيق يأتي المحققون بمكتب يجلسون عليه، ثم يسألونني عن علاقتي بتنظيم سري.. قدموا لي محضرا من عشر صفحات فوقعته.. تمحورت ردودي حول عدم إيماني بالعمل السري في مجتمع مسلم لا يحتاج إلى تنظيمات سرية..
أحد المحققين كان ذكيا: سألني عن موقفي من الديمقراطية الموريتانية. قلت له بأنها مزورة. قال لي إذن بما أنها مزورة وبما أنك مناضل سياسي فلا بد أن لديك وسائل أخرى. قلت له بأن المناضلين السلميين يصبرون كثيرا وطويلا، والظلم تجاههم وقمع الدولة لهم لا يمكن أن يحولا دون النتائج الإيجابية والمضمونة. أعطيته كمثال غاندي ونضاله السلمي ضد الانكليز.. ذكرت له أنني ضد هذا النظام الذي حرمنا من حقنا المطلق في العمل السياسي.. سألني عن أسفاري وطلب مني أن يكون التحقيق بالفرنسية.. قلت له أنني لا أعرف من الفرنسية إلا قدرا يسيرا علمنيه UFD .. طلب مني أن نجري التحقيق بالزريقاء (ازريكه) فوافقت. أتذكر أنه سألني عن علاقاتي بالترابي فأكدت له أنني معجب به. وفي المحضر الذي أعده بالفرنسية قام بمراوغة استطعت أن أتنبه إليها. لقد كتب أنني استمعت إلى Les directifs de حسن الترابي (أي تعليماته) ، غير أنني استوقفته وطلبت منه أن يكتب Les conseilles بدلا من ذلك لأنني ربما استمعت إلى نصائحه وليس تعليماته وأوامره.. محقق آخر قال لي: لقد أمروني أن استفسركم عن موضوع حاسم. قلت له ربما نسيت ما قالوا لك؛ فالأمر يتعلق بحماس وليس حاسم. أما تلك فأعرفها وأطنبت في شرحها له.. ذهب وعاد إلي وهو يقول: إنك تهزأ بي؛ فهم يسألونك عن حركة سرية تدعى “حاسم”. قلت له بأنني أعرف كل ما هو موجود في الساحة السياسية، وبما أنني لا أعرف هذه الحركة فمعناه أنها غير موجودة.. مرة دخل علي ضابط. قال لي: يا جميل سأستفتيك.. قلت له: رغم أنني لست بمفت فبإمكانك أن تسأل ما بدا لك. قال: بماذا تثبت الأمور. قلت بالتواتر وبكذا وكذا. قال لي: لم تفهم، أريد أن أعرف كيف يمكن للقاضي أن يثبت قضية.. قلت له: يثبتها بعدلين. قال لي: من تعرف من العدول في السجن؟ قلت: كلهم عدول في ما أرى. قال: إذا أتيتك بعدلين من السجناء يشهدان عليك، فماذا تقول؟ قلت: إذا شهدا علي في داري أو في الشارع يمكن أن آخذ بشهادتهما، أما إذا شهدا علي في مخافر الشرطة وتحت التهديد فإن الأمر مغاير لأنها شهادة غير معتبرة شرعا، وعلى كل حال بإمكانك أن تحضر الشهود.. أحضر الضابط شهودا من الجماعة، وكان الأمر كما تصوره هو، لكنه كان أيضا كما تصورته أنا (محرج من ذكر الأسماء في هذا المقام).. عندما يئسوا مني دخل علي مفتش شرطة ووكلاء وذهبت معهم إلى بيت في الطابق العلوي.. طلبوا مني أن أتجرد من جميع لباسي، فرفضت. غير أنهم جردوني كرها إلا من السروال. وبدأوا في إرغامي على القيام بحركات متعبة جدا
وعلى مدى 12 ساعة.. في هذه الأثناء ارتأينا أن نقوم بالتصريحات التي بثتها وسائل الإعلام، لكنها لم تكن نزيهة في نقلها، فاعتمدت على التشويه والمونتاجات الموجهة.
بعد اقتناعنا بأن السلطة تقوم بعملية تجارية اعتبرنا التصريحات وسيلة سياسية لعدم الدخول بالتيار في مواجهة غير متكافئة الأطراف للحيلولة دون دفعه إلى مسائل قد تؤدي به إلى التطرف. شخصيا رفضت إلا أن أصوغ تصريحي الذي اشترطت فيه أن تضمن الدولة تطبيق القانون وترعى حرية التجمع والمؤتمرات، لكنهم اقتطعوا بشكل واضح جزء من تصريحي. لقد تحملت عن وعي الخسارة السياسية والتشويهية من جراء التحايل على التصريحات”.
يرى السجين أن التيار الاسلامي الموريتاني غير عنيف بطبيعته. فرغم حرمانه من حقه السياسي لم يقم بأية ردة فعل تمت بصلة إلى العنف. بل فضل دعم المرشح المستقل في الرئاسيات ثم الإلتحاق بحزب الوسط فاتحاد القوى الديمقراطية. هذا على الأقل ما كان مع جلهم. ثم إن الاسلاميين اكتفوا بمحض إرادتهم وقناعتهم بممارسة النشاط الدعوي والتربوي في المساجد والمحاظر. لكن أي نظام بوليسي، حسب رأي السجين، يفضل أن يخلق لنفسه متطرفين.
وبما أن جميل منصور مؤمن بفكرة الأستاذ غنوشي عن الدول الثلاث: الدولة الطبيعية (الاستبداد)، ودولة العقل (العدالة والإنصاف)، ودولة الشرع، ومؤمن مثله بأن دولة العقل هي الصالحة لهذه الفترة، فقد اختار الديمقراطية. وربما لهذا السبب التحق مع مجموعته باتحاد القوى الديمقراطية. ويرى السجين جميل أن التيار الاسلامي في البلاد يستوعب كل الناس (متصوفة، سلفيون، أصوليون…).
لقد استدعي السجين مرة من طرف مدير الأمن إبان محاولة تأسيس جبهة إسلامية لسبب أنه كان من رافضي فكرة السير في فلك النظام. كان الاستدعاء وديا في ظاهره، تهديديا في باطنه. كما تم استدعاء 12 شخصا من بينهم زوجته ولنفس الأسباب.
“بعد أن أكملوا خطتهم أخبرونا بأن عندنا حق اقتناء وسائل الإعلام. وعندما سمعت التصريحات في الإذاعة تأثرت كثيرا. لقد كانت الضربة موجعة وكان المونتاج فظيعا. قررت أن أهرب لسببين: أحدهما توضيح الصورة المشوهة التي قدمت عنا. والثاني متابعة القضية في تبعاتها وحيثياتها. أرسلت للأسرة أريد مجهزة حلاقة (اتروس) ودراعة مغايرة للتي ألبس وساعة منبهة..
وجدت لي مكانا في البهو قرب صديق في زاوية، غير أن شرطيا طرح مقعدا في جوارنا.. قلت بصوت نصف مرتفع بأن البعوض كثير.. انتقلت بالمحشية إلى حيث تنام مجموعة من الشرطة والمساجين.. كنت قرب نافذة تفتح على شجرة تحتها المهملات ثم حائط أجهل ما وراءه.. كنت قد طلبت من أحد الزملاء 1000 أوقية للرحلة. وعند الثانية بعد منتصف الليل أيقظتني سماعة الساعة التي ألصقت بها أذني قبل أن أنام.. تمنطقت بلثامي وطويت دراعتي الجديدة وتركت الأخرى فوق المحشية على هيئة رجل موسد. وفجأة خرج شرطي مع السيد بوبكر ولد أحمد لحاجة.. فهمت أن الشرطي الحارس سينتبه للحركة التي يحدثها خروج الرجلين فأجد فرصة للتدحرج، غير أن الرجلين عادا قبل أن أبدأ التنفيذ. وبعد ثوان خرج الرقيب. بدا أنه يريد أن يبول.. تدحرجت مباشرة.. خرجت على الدهليز وتسلقت الحائط برفق، وقفزت إلى المجهول.. لم يكن أمامي إلا الحديد والخشب والأوساخ.. نبحت كلاب وأحسست أنني أحدثت صوتا فهممت بالرجوع خوفا من إرجاعي بطرق أخرى.. توكلت وواصلت.. خرجت من جانب كوديميكس وعرجت إلى غربي لكصر.. رأيت ضوء فقفزت خطأ في حائط كان أهله نائمين.. خرجت منه واتجهت إلى صديق لي بتيارت.. كنت ملثما وكانت الساعة تشير إلى الثالثة.. وجدت صديقي في سفر فتأزمت قليلا.. قررت أن أذهب إلى بعض الأهل في دار النعيم.. عرجت من شمال المطار. وتجاوزت امكيزيره.. أتيت الأقرباء الرابعة.. طلبت ماء و”مغسلا” وحلقت لحيتي.. بدوت لنفسي وكأني شاب من MDI ..
غادرت متجها إلى الوالدة والزوجة.. أخذت سيارة أجرة وطلبت من سائقها أن يوصلني بسرعة إلى الرياض كي لا أتخلف عن الطائرة (تحايل فقط)..صليت الصبح عند أسرتي وعدت إلى المدينة لأدخل في السرية لمدة يومين.. وزعت مع زملاء لي منشورا وبدأنا نرتب للمستقبل، إلا أننا فوجئنا بقرار العفو”.
نشر في تقدمي بتاريخ الأربعاء, 20 نيسان/أبريل 2011