هذه المرة تقابلون السيد (المرحوم) عبد القادر ولد الناجي: عضو المجلس التنفيذي لحزب الطليعة.. ضابط وحاكم سابق.. طرد من إعدادية أطار عام 1966 بسبب نشاطه مع النوادي الطلابية المتحررة.. تابع حياته الدراسية في المشرق ليتخرج ضابطا متخصصا في الدبابات.. شارك في حرب الصحراء وفي انقلاب 10 يوليو 78.. له ذاكرة قوية سجلت كل شيء لكنه اختار لبعضه فقط أن يرى النور.
“أول اعتقال أعرفه كان سنة 1982.. حينها كنت ضابطا مدرسا في المدرسة العسكرية بأطار.. سألني المحققون – من بين أمور أخرى- عما إذا كانت الأيديولوجيا البعثية تدرس بالكليات العسكرية العراقية، فأجبتهم بأنها كذلك.. نقلوني إلى نواكشوط حيث تم توقيفي لدى المنطقة العسكرية السادسة.. كنت في غرفة، وكانت ظروفي لا بأس بها.. لم أتلق تعذيبا جسديا ولا حتى نفسيا كبيرا.. أكد لي ولد لكحل أن المسألة عابرة، وأن كل شيء سيتغير، وأن وراء مشكلتي مدني. إيماءة – ربما- إلى أن أحد الصحراويين وشى بي أو عمل على أن أسجن لأسباب تتعلق بالفترة التي أمضيتها حاكما في مقاطعة بئر أم اكرين أيام الهدنة، إذ رفضت أن أمنحهم تسريحات داخل الوطن إلا بعد مصادرة أسلحتهم لأسباب أمنية”.
كان الضابط السابق (الذي يعيش على منجرة في زاوية مهجورة على طريق لكصر/تفرغ زينه) رئيسا للنادي الثقافي والرياضي لشباب أطار.. مساعده الأول كان السيد أحمد ولد مكيــّـه.. رفاقه في النضال خمسة: محمد سالم ولد سيدي دحان- المرحوم محمد ولد بابه- محمد سالم ولد هيني- صار إبراهيم (رئيس مكتب ألف في نواذيبو).. يتذكر أن أول أحد اجتذبه إلى التفكير القومي هو الأستاذ محمدن ولد إشدو: حينها كاتب ضبط في مقاطعة أطار (عاصمة ولاية آدرار).. لا ينسى أبدا المناضل سميدع والمذياع الذي يحمله إليهم ليسمعوا خطابات جمال عبد الناصر؛ وبالتالي ليتعلموا الفوران والسخونة الثورية.
“في أوائل عام 1984، وحين كنت خارجا من الحمام، حوالي الساعة الثامنة صباحا، فوجئت بزوجتي السابقة (أم المؤمنين بنت أحمد) وهي تخبرني أن الشرطة في انتظاري.. خرجت لأجد أمامي رجلين يلبسان زيا مدنيا.. قالا لي ان مدير الأمن يطلبني.. ركبنا سيارة رينو 12 وأوصلاني إلى مدرسة الشرطة.. أتذكر أنني كنت في غرفة مع مجموعة من المدنيين المعتقلين في إطار مشكل مع قنصل موريتانيا في السينغال إبانها.
كان المفوض جاكيتي يشرف عليّ، وكانت ظروفي عادية إذ يأتيني الطعام من عند الأهل.. كان مدير الأمن في سفر.. بعد عودته أرسلوا لي مفوضيـْـن، وبدأ التحقيق.. سألوني عما إذا كنت بعثيا. أجبتهم بأنني منذ سنة 1975 وأنا أسمع أنني بعثي وأن هيداله أحد أفراد البوليساريو.. لم أتلق تعذيبا جسديا. وكان المفوض دداهي يسألني عن اسمي ومحل ميلادي وقبيلتي. وكان يغضب كلما ذكرت له أنني لا أنتمي إلى قبيلة. أرسلوا المحضر إلى هيداله. وتبينت في ما بعد أن مؤداه أنني رجل ليست له مشاكل وسمعته جيدة في الجيش، غير أن له ميولات سياسية لا يخفيها.
أرسلوني للإقامة الجبرية في قرية العزلات (بين ألاك وبوكي). وفي ألاك استقبلني الوالي المساعد المكلف بالشؤون الاقتصادية لأن الوالي، الشيخ ولد دده، كان غائبا.. قلت له: أنا سجين والفصل خريف.. أعطني أدوات فلاحة وسأكون شاكرا. قال لي: لا، نحن نريد لك أن ترتاح، ونطلب منك عدم القيام بما لا يتماشى مع النظام..
جئت إلى قريتي (العزلات) ورممت مدرستها وأنشأت بها أول تعاونية أسميتها الوحدة.
وفي يوم 12 دجمبر وقع انقلاب عسكري ضد هيداله.. اتصلت بالرفاق في نواكشوط وحذرتهم من أن تغريهم اللجنة العسكرية الجديدة.. ثم اتصلت بمدير الأمن جوب جبريل (أحد أصدقائي في المؤسسة العسكرية) وطلبت منه سحب بطاقات الجوسسة من المواطنين، وترك الشرطة تقوم بعملها. فأكد لي أنه سيفعل”.
كان والد سجين الحلقة أحد أكثر الولاة كفاءة في عهد الرئيس الأسبق المختار ولد داداه.. أما هو فإنه أول من تقدم –وحده في القاعة- لمسابقة رتبة نقيب باللغة العربية. وكان من المفارقة، بعد رفضه كل الوساطات ومن بينها العقيد ولد ابيليل، أنه يجيب باللغة العربية على أسئلة مكتوبة باللغة الفرنسية.
تعهد السجين لنفسه بأن لا يشرب الشاي أبدا وأن لا يدخن كي لا ينزعج كثيرا من الاعتقالات التي ينتظرها دائما.
“إبان زيارة الملك حسين لموريتانيا كنت أوزع مع بعض الرفاق صورا لصدام حسين، فإذا بسيارة للشرطة تتوقف بجوارنا.. جمعونا واقتادونا إلى المفوضية المركزية للشرطة.. هناك سألني المفوض (أنديان، أظن) عن أسباب طردي من الجيش؛ فطلبت منه أن يطرح السؤال على اعلي ولد محمد فال لأنه أدرى.. أمضينا ساعات. ثم صدرت أوامر بإطلاق سراحنا فورا”.
في يوم 1 مايو 1977 شارك عبد القادر في معركة افديرك، وكان ملازما مسؤولا عن إحدى الدبابات. وخلال المعركة قتل سائقه وأصيب هو بجرح بالغ في الظهر، لكنه نجا لأن الضابط اعلي ولد محمد فال، الذي كان يتحرك داخل سيارة جيب، استطاع أن يحميه. ولم ينس السجين أن الضابط معاويه ولد سيد أحمد الطايع هو من أمر بإرساله فورا للإستشفاء.
“كنت أقود سيارتي قرب ملتقى طرق مدريد فإذا بشاب لا أعرفه وهو يشير عليّ. توقفت فقال لي: عبد القادر أرجو منك أن تخرج البلد لأن الشرطة تبحث عنك.. قلت له: أنا لا أهرب، وذهبت إلى دار مامادو سيسيغو (صديق لي قديم كان وزيرا في عهد المختار ولد داداه).. والغريب أنني تذكرت المفوض جاكيتي الذي أحسن
معاملتي في اعتقال سابق. وفجأة دخل علي هو نفسه ومعه مفتش.. كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف زوالا.. قال لي: أتعبتنا؛ فمنذ يومين ونحن نبحث عنك؛
أعرف أنك لن تهرب مهما كان، ولذا اتصلت بأخيك سيدي ولد انجاي فأعطاني العنوان.. طلبت منهما أن يمرا بي على الوالدة فاطمه المصابة بارتفاع الضغط..
أثناء البحث عني، اعتقلت الشرطة أختيّ نفيسه وسخنه لتجبراني على العودة، لكن توقيفهما لم يطل.. قال لي الشرطيان ان عندهما أمر من وكيل الجمهورية بتفتيش داري.. فتشاها وأخذا معهما وثائق عن حقوق الإنسان ونشرات عن أخبار العراق توزعها السفارة العراقية المعتمدة بانواكشوط..
عند مدرسة الشرطة أجلسوني على مقعد لمدة طويلة. وعندما أحسست بالنعاس فهممت بالنوم، قالوا لي: لا يوجد لك إلا البلاط.. أخبرتهم بإصابتي القديمة خلال المعركة (والتي تمنعني من البقاء جالسا لفترة طويلة)، فجاءوا بطبيب. وبعد الفحص أمروا لي بمحشية لأنام عليها. . كنا أثناء التوقيف نتعاطى الحديث الشيق مع عناصر الشرطة. فقد اكتشف الرفاق الموقوفون وعناصر من الشرطة أدبا جديدا سموه <أدب السجن>. فكان الدكتور النعمه يقول كاف (بيتا لهجيا) حول ركاكة المأكل فيرد عليه أحد عناصر الشرطة بكاف آخر.. شخصيا لم أعذب ولم أر أحدا يعذب وإن ذكر لي الرفيق اباه ولد اباه أنه عذب وأبان لي عن أثر في رأسه.. على العموم لم يكن هناك تعذيب وحشي مثل ما كان يقع في عهد هيداله ككي الظهور، ومن الطبيعي أن لا يقع لأننا في عهد ديمقراطي رغم أننا لم نكن نتوقع أمرا كهذا.. هذا وقد دارت كل استجوابات الشرطة لنا حول ملفات السبعينات. وقد عادت إلينا المحاضر لتوقيعها ولم يضف إليها أي شيء. أو على الأقل لم يضف أي شيء على محضري الشخصي”.
للتذكير فإن سجين الحلقة كان قد عرف ولد اعبيد الرحمن وولد اماه ومحجوب ولد بيـّـه والمرحوم سميدع إبان مؤتمر الطلاب والمتدربين الموريتانيين في دمشق خلال سبعينيات القرن الماضي.. وما يزال يتذكر بمرارة كيف حضـّـر هو ورفاقه هذا المؤتمر، وكيف جنى ولد اعبيد الرحمن ورفاقه ثماره!!.