لقد أقبلت الأوساط المثقفة الموريتانية بشكل منقطع النظير ومنذ القديم على استخدام الأراجيز في الميدان العلمي تأسيا في ذلك بأعلام الأندلس من أمثال محمد بن مالك و محمد بن العاصم.
و قد وجد أهل هذه الربوع في الأراجيز العلمية “الأنظام” ضالتهم المنشودة، وهم بدٌو رحلٌ رمت بهم الأقدار في مجال جغرافي ينأى عن المراكز الحضرية بحيث تنعدم وسائل التقييد و التسجيل. و قد استطاع العلماء الموريتانيون أن يضعوا في متناول الجمهور مجموعة من المنظومات الغُرر لا تقل في فائدتها و نسجها عن مثيلاتها على مر التاريخ الإسلامي.
فمنظومة الواضح المبين في أصول الدين للعلامة عبد القادر بن محمد بن محمد سالم المجلسي، و منظومة سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم العلوي في أصول الفقه: مراقي السعود، و منظومة محمد مولود بن أحمدفال اليعقوبي الموسوي في الفقة: كفاف المبتدي، ومنظومة عبد الله بن الحاج حماه الله لرسالة تبن أبي زيد القيرواني و توشيح المختار بن بونه على ألفية بن مالك، و منظومتي البدوي المجلسي في الغزوات و في عمود نسب رسول الله صلي الله عليه و سلم … أصبحت في الوسط المحظري الموريتاني تحظى بنفس الاهتمام الذي تحظى به إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة للمقري، و تحفة الحكام لابن العاصم، و كافية محمد بن مالك، وعقود الجمان للسيوطي، و قرة الأبصار لعبد العزيز اللمطي …
و قد تناول العلماء هذه المنظومات بالشرح تارة و بالتذييل و التوشيح أحيانا أخرى.
و فضلا عن المنظومات الطويلة التي اكتست طابع التأليف حيث كانت في الغالب عقدا لتأليف نـثري متداول كجمع الجوامع لابن السبكي و تسهيل محمد بن مالك أو رسالة أبي محمد بن أبي زيد القيرواني، وحتى الشيخ خليل، فقد شاع في الوسط المحظري ظاهرة تسجيل الفروع، والأحكام، والشوارد، والنكت في أبيات قصيرة يسهل حفظها، تكتب في هوامش الكتب أو تقيد في ورقات يرمي بها في جانب من كنانيش المكتبات.
و مع مرور الزمن أخذ استخدام الأراجيز منحى جديدا يبتعد عن المجال العلمي التسجيلي المحض، ليدخل حيز الطرافة و الأدب و ليعرف البديع طريقه إليها في أحسن صوره. و في رأينا أن الرائد في هذا التوجه كان محمد النابغة الغلاوي (توفي 1245 هـــ/1829مــ). فمنظومته الاعتبارية: أم الطريد، ومنظومته في المعتمد من الكتب والأقوال في المذهب المالكي، كانتا فضلا عن قيمتيهما العلمية مجموعةً من المقطوعات الشعرية تـنبع بالطرفة والبديع حتى أصبحت تنشد في مجالس الشعر ويستحسنها ذائقو الأدب تماما كما يستحسنون مقصورة ابن دريد و حديقة ابن الونَّان.
فيقول في النظم الأول معتبرا بوفاة إمام “فُوتَ” : المامي عبد القادر :
وغدرتْ بالمــَامِ عـــبدِ القـادرِ
وغادرتهُ بيـــن كل غادرِ
وجيَّشـتْ لهُ من “البــــَــــــنابرِ
ما هدَّ ما بنـــــــاهُ من منــابرِ
وفات فُوتَ عدلُ ذاك الصــــــــالحِ
وأصبحوا من بعدُ قومَ صــــــالحِ
ويقول في النظم الثاني متكلما على أجوبة محمد بن ناصر الدرعي :
و جمعهمْ أجوبةَ ابنِ ناصرِ
لم يــكُنِ الشيـــــخُ لهُ بنــاصرِ
إذْ ما أرادَ كونـــــــهُ كالأمِّ
خوفَ اغترارِ جاهلٍ أو أُمِّـــــــــي
لأنهُ أجاب كُلَّ ســائلِ
بحسبِ السائلِ لا المـسائلِ
فطورًا أطلقَ و طــــورًا أجملا
مِن ثَم تركُ الكُـــــــــلِّ كان أجملا
و يقولُ في الكلام على الكتب التي لا تُعتمد في ما انفردت به، ممثلا لذلك بعلي الأجهوري المصري و تلامذته المعروفين: عبد الباقي الزرقاني والشبرخيتي والخِرشي والنشرتي :
بيانُ ما من كتبٍ لا يُعــــتمدْ
ما انفردتْ بنـــــقله طُول الأمــــدْ
من ذلكِ الأجــهوري معْ أتباعهِ
مع اطلاعهِ و طُـــولِ باعهِ
وما له قدْ قلتَ قلْ في الباقِــي
كالشبرخِِــيتي و عبد الباقي
لأنهمْ قدْ قلَّــــــدوا ما قالهْ
شيخهمُ و نقلوا أنقـــالهْ
ويصل نظمه إلى منتهى الطرافة حين يتكلم على شرح ابن مرزوق على مختصرالشيخ خليل، وهو الشرح الذي تناول أول المختصر و آخره، فصوَّر النابغة ذلك بإلباس ابن مرزوق مختصرَ الشيخ خليل سراويلَ و عمامةً :
و اعتمدوا مُختـــصر ابن عرفهْ
كذا ابنُ مرزوقٍ و عنْ منْ عرفهْ
بشرحهِ للشيخِ ما إنْ عمَّـــمَـهْ
لكنهُ سَرْوَلهُ و عمــَّــــمَهْ
وقد أشار العلامة المؤرخ المختار بن حامدن في ألفيته في أولاد سيدي الفالي إلى أن النابغة قد طرق نوعا من البديع لم يسبقْ إليه، و ذلك في مرثيته لشيخه العلامة أحمد بن العاقل التي جعل أعجاز أبياتها أشطارا من الألفية على وجه التورية، يقول المختار :
الحمد لله و بعدُ فالنَّـــــــــــــا
بغــــــةُ زاد في البديــــع فنـَّا
إذ ضمَّن الأعجاز من ألــــــــــفيهْ
مقاصدُ النــــحو بها محـــــويهْ
و ينبري العلامة الأديب سيدي محمد بن الشيخ سيديا في منظومة طويلة حلَّتها طرافةُ الموضوع و شاعرية الناظم، سجل فيها نبذا مما يعرف بهزليات أولاد ديمان. ففي مسرحية “وفد العيش” ، يقول سيدنا :
و سار وفدهــــم إلى العصـيدِ
يرضُــونه من بلــدٍ بعـــيدِ
حتى أناخوا عنده و سـلــَّموا
وبجَّـــلوا مقدارهُ و عظمّــَوا
وطربوا و حــــــكوا الأخبارا
وسمِروا و أنشدوا الأشـــعارا
فطرب العيش و طابت نفســُـــهُ
و طلعتْ بعدَ الأُفول شمْـــسهُ
و صار يهتـــــــزُ على الدوامِ
حتَّى خشـــــوْا إراقة الإدامِ
ويقول في قصة المرأة التي أطعمت ضيفها نعليه :
و من شــــوتْ لضيفها نعلـــيهِ
وقدمتــــهُما قِــــرًى إليهِ
و إذْ تغذَّى الضيفُ قالتْ لـمَّا
سألها “إنَّهما لثَمــَّا”
و في الجانب التراثي أيضا، تشكل منظومة المدافن للعلامة “المختار بن جنكي اليدالي” أكثر المنظومات السائرة على الألسنة بحيث تتحف السامع بخريطة جغرافية مفصلة لمزارات الصالحين وكبار العلماء مع الإشارة لبعض مناقبهم. فلاحظ حسن نظمه عندما يقول في الولي الصالح حبيب الله المختار الألفغي :
و صاحب الســــُمِّ حبيب اللهِ
فلا تكن عن زوره بالـــلاهي
أنوارهُ كالشمس في الظـــهيرهْ
صلَّى عليهِ ملزمُ الحــــظيرهْ
وعلى غرار منظومة “معشوقة البخاري” التي أتى بها صاحب الوسيط، يحتل النظم السردي جانبا مهما في هذا المجال.
فنرى العلامة امحمد ولْ أحمديورَ يسرد بعض ليالي البادية :
قد سبتِ التي سهـــرتُ ليــلي
من حبها حـــميدُ و الجُمـــيلِي
وابنُ الإمامِ أحــمد الــبر الأغرْ
فيه خــلافٌ عنهــمُ قد اشتــهرْ
همُ الأُلــى قدْ أسهرُوا الجمــيلهْ
في ليــلةٍ ذاتِ نــدًي طـــويلهْ
حتَّــى رأوْا من الصــباحِ نُورا
“ولــَّوْا على أعْـــقابهم نُفــورا”
و ناظمُ الأبـــــياتٍ ليسَ منهمُ
لكــنه بحُبها مُتـَّـــــــهمُ
وقد نظم القاضي محمذن بن محمدفال، على وجه المزاح، بعضا من تلامذة والده “لمرابط ببها” في منظومة يقول فيها :
بعضُ التلامــــيذ على المعانِي
قد فضــــل الألحان و الغوانـــي
و بعضهمْ يهـــتمُ بابنِ مالــكِ
ولمْ يكنْ لِرَســْـنهِ بمالـكِ
إلى أن يقول :
و النظمُ منْ أغضبهُ في الناسِ
“كحاملٍ خَطوة فــــــمْ الحاسِ”
لأنهُ عمَّ على التـَّـــــلامِي
فما علي فيه من مــــــلامِ
و إذا كانت شِعرية الأنظام التعليمية محل بحث الآن في بعض الأوساط الأكاديمية، فإننا نجزم بشعرية أنظام العلامة حمدن بن التاه نظرًا لسبكها و تدفقها و حسن موسيقاها. يقول في مواقف العلماء من الإفتاء في مستجدات العصر:
فبعضهمْ مال للانـــــــعزالِ
تورُعًا من هــــذه الأحــــــوالِ
و بعضُــهمْ مال للاجتـــــهادِ
مع انقـــــطاعهِ بكُـــــــلِ وادِ
فضاعتِ الأحكامُ بيـــــن ذينِ
وظهرَ الجهـــلُ على وجهــــــينِ
و يقول ناظما الخلاف في غسل الجمعة السني هل يحصل به غسل الجنابة الواجب مصورا ذلك في شكل ملحمة بين ابن القاسم و مخالفيه في المسألة :
كنانةٌ و نافـــــعٌ و الماجشـــونْ
أبناؤهم مع ابن وهبٍ قائـــــلون
ما قالهُ مطرفٌ : من اغتــسلْ
لِجمعةٍ غُسلُ الجـــــنابةِ حصلْ
وخالفَ الجميعَ نجلُ القاسمِ
وردّهمْ في حالةِ التقـــــــاسُمِ
و قالَ – إذْ حفَّتْ بهِ الأعِنَّـــــــهْ –
ما كنتُ أقضي واجبًا بسُــــــنّهْ
كما نجزم بشاعرية نظم العلامة محمد العاقب بن مايابي الجكني، يقول من نظمه لنوازل العلامة سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم العلوي متكلما على الديات :
و دية الرُّعافِ دينـــــارانِ
و الحُــــرُّ و الغـــيرُ بها سيّانِ
و خمسةٌ من العِـــرابِ : العقلُ
في ضربةٍ يـــزولُ منها العـقْـلُ
و لا نشك فيها في قول ابن زين القناني حين يؤرخ لوفاة العلامة الشيخ أحمدُّ بن اسليمان والعلامة الطبيب أوفي بن أبابكر الألفغي مؤرخا في نفس الوقت لأحدى الظواهر الجوية آنذاك:
و عام سينٍ بعد شيــــنٍ قدْ ظهـــرْ
من جهةِ المشـــرقِ نجــمٌ قدْ بـــهرْ
و”ابنُ سليمانَ” و “أوفـَى” رُحِما
و ثلــمةٌ في الدِّيــــنِ موتُ العُلما
و في الجانب البديعي، ومن أنظام المعاصرين، تشكل المنظومة الفريدة: “قرة العينين في غزوات سيد الكونين” للقاضي محمذن بن محنض باب “سيلوم” خير مثال في هذا المجال. و لنقف هنا عند بيتين نظم فيهما عدد قتلي المشركين يوم أحد و كانو اثنين و عشرين نصفهم من بني عبد الدار. و قد استخدم فضيلة القاضي في ذلك حساب الجمل متلاعبا بالألفاظ بمهارة لا تخفي :
و كُبَّ من كُفَار عبــدِ الدَّارِ
أيٌّ ” على وُجوهـــهمْ في النَّارِ
و كُبَّ أيٌّ من سواهمْ فالجميعْ
“كُبَّ” نعـــوذُ بالمُهيمن السميعْ
و تصل سلاسة و انسيابية النظم أقصاها في أنظام العلامة محنض باب بن أمين كالمباحث الفقهية، سلم المرتقين … فاستمع لقوله في نظمه: “المتوسط” عند الكلام على الامتهان ممثلا بقصة المازني الشهيرة مع الواثق و التي أشار لها البدوي في عمود النسب بقوله :
ذهل ابنها منها الإمامُ المــــازني
مقومُ اللــــحن لكل لاحـــنِ
يقول محنض بابَ :
و الامتهانُ منــــــهُ معــنويُّ
يغفلُ عنهُ الجاهلُ الغــــــبيُّ
و ليس مثلُ المـــــــازني يغفلُ
عنهُ و لا للحكمِ فيه يجـــــهلُ
فقدْ أبي نسخَ كتابِ نحوِ
لبعض آياتِ الكتابِ يحــــوي
معْ بذلِ مُستنـْـسخهِ لمائةِ
دينارٍ إذْ كان من أهلِ الذمَّـةِ
فعوّض الإله ُخيـرُ رازقِ
من مائةِ الذميِّ ألفَ الواثـقِ
و قد وصل اهتمام العلماء الموريتانيين بجودة الأنظام درجة أن أصبحت محل انتباه و مفاضلة من المهتمين بالأدب، فيروي أن العلامة محمد مولود بن أغشممت المجلسي.
– و كان حسن النظم – سلّم في جودته للعلامة محمد مولود بن احمد فال اليعقوبي الموسوي حين قال في مسألة الخلاف في العفو عن حكم خبث ما يتسرب من الدم في الفم مستخدما في ذلك لغة تشديد الميم في كلمتي : الفم و الدم :
قد رجح اللـــخميُّ طُــــهر الفمِّ
بِمَجِّ صافي الريــــقِ بعد الـدمِّ
دفعًا لِما يشِـقُّ و القويُّ
خلافُ ما رجَّحهُ اللخميُّ
و لا غرابة في إعطاء السبق لنظامة كالعلامة “محمد مولود” إذا ما علمنا أنه هو الذي يقول في الذكاة من نظمه المعروف : كفاف المبتدي :
و جاز ذبحُ الشاة من قَفَاها
لدى الثلاثة و من قَـفاها
و يعني بالثلاثة في البيت غيرَ مالك من الأئمة الأربعة، و هو الذي يقول في نظمه لمحارم اللسان متكلما على حرمة مد حرف الهاء بألفٍ في كلمة “إلهَ” و كذلك مد همزتها بياء عند الهيللة:
من زاد بعد هَا “إلهَ” الهـاوِيَا
مُهـَلِّـلاً أو مدَّ همْــزَها بِيَا
عصى بإجماعٍ من الأنـاصِـي
وعبَدَ الإلـهَ بالمعاصِـي
و تجد المحسنات البديعية المعروفة في الشعر كالاقتباس و التلميح و التضمين والجناس و لزوم ما لا يلزم طريقها إلي الأراجيز في أحسن هيئة، فيقول القاضي محمذن بن محمد فال (اميي) في دائنٍ أعرض عن التصريح بهويته حين استوضحه بعضهم :
دَينُ أبي ليلـــي به إن أمــــهلا
فـَــــهُو دينٌ لا يموتُ المَـــثَلا
و لو بدا من شـــــأنه النقصـــانُ
وعاقَ عنهُ البعدُ و الليـَّانُ
لأنه لا بدَّ من لِقائــهِ
يوماً و لامحيدَ عن قَضائهِ
و يقول القاضي محمذن بن محنض باب “سيلوم” في التعريف بالشفّاء بنت عوف الزهرية قابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم و و الدة صاحبه تاجر الرحمن عبد الرحمن بن عوف :
و نجــــلُ عوفٍ أمُّـهُ الشفَّــــــــاءُ
قابلـــةٌ في قولِها شِفاءُ
و لتعـــــرفنَّ نســـــبةَ الشَُفَّاءِ
منْ كُلِّ عوفٍ خِـيـــفةَ الخَـــفـاءِ
فزوجُها عوفٌ و عبدُ عوفِ
عـَمٌّ لها و هــِــي بنت عوفِ
و يقول في تحديد إحداثيات “حُنين” مستعرضا في الوقت نفسه مختلف تسميات الغزوة في قرب مأخذٍ فريد:
حُنينُ وادٍ قُربَ ذي المجــازِ
وسوقُ ذي المجاز بالحِـجازِ
و بزُهــــــاءِ فرسخٍ من “عـَرفهْ”
قدَّر قدْرَ بُعده مَن عَـرَفــهْ
به الغزاةُ سُمِّيـتْ و بِهــــَوا
زِنَ وأوْطاسٍ علي حــــــــدِّ السَّوا
و من نظم مكفرات الذنوب نورد هذين البيتين :
و من يُـــصلِّ ركعتــَــيْ ضُــــحاهُ
مُبتغـِــــيًا بها رِضَــــــــــي مولاهُ
فاز بغــُــــفرانٍ من الــقديمِ
لذنبهِ الحادثِ و الــــقديـمِ
و علي غرار منظومة الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا في الهزليات، أتحفنا أدباء منطقة إكيدي بمجموعة من المنظومات التراثية الشيقة، تستريح لها النفس و يهش لها الفؤاد. يقول امييْ في نظم لكزانهْ :
حمدًا لمن كَــــسا الحِـــجا غِــــشاءَ
و لمْ يـــــُرِ الغيبَ سوي من شــَـاءا
ثُمَّ السلامانِ علي خيـــرِ شَـــفيــعْ
و الآل و الصَّحْبِ أولي القدر الرفــيعْ
و بعدُ فـالإكْـــزانَ محضُ السَّــــــفهِ
لا تثقـــــــنْ بما أتي فيها فهِــــي
لم يعتــــقدْها غيرُ ذي تزنــــــــدُقِ
فلمْ نُــكَـذِّبْـها و لمْ نُصـدِّقِ
و قدْ نظمــــــــتُها لقـــــومٍ طلبوا
تفـــــاؤلاً و هْي لـــِذاك تُجـــــلبُ
و نظمُها قدْ كان بالتــــــــركِ قــَمِـنْ
و كُلُّ شيءٍ عِــــــلمُهُ أفضــــــلُ مِنْ
إلي قوله :
و” تذكر الطريقِ” عندهُـمْ قَضَا
حاجٍ وكَـسْوةٍ و للهِ القَـضَا
و قد رويْــتُ كلَّ ذي الأخْبارِ
عمّنْ روي عن ابنـــــــةِ البربــــارِ
و لا غرابة أن يحظي “العيش” و هو غالب قوت أهل إكيدي باهتمام الناظمين من أهل ذلك المحيط. يقول الشاعر أبو بكر بن محمذن بن أبي بكر الفاضلي في أدبياته من منظومة لا يخفي فيها حسه المرهف و قريحته الفريدة :
و بعد ذا فذا نُظـــــيمٌ إن صَــــلحْ
فيهِ سدادُ عـــــوَزٍ من المُــــــــلَحْ
سميته إذن “مُزيـــــــلَ الـــفيشِ
بين المطـــــاعم وبين الـــــــعيشِ”
فهْي و إن تكاثرت ألوانُها
ثم تفاوتتْ لــــذا أثمانُها
أيسرها العيش وفي ما كانا
أيسرَ يرْعى العاقلُ الإمكانا
فبينَ أمرين إذا مــــا خُيـِّـرا
نبيُّـنا اخــتار الأخــفَّ الأيــْـســـرا
وفيه جُل عيش أهــــل القبــلـــةِ
وفقــــدُه علــــةٌ أيُّ عِلـَّــــــةِ
إذ لم يكُ القمحُ لهـــم معــروفـا
ولا الثــــريد عندهمْ مألوفا
فعيش ديــْـمانَ الـــذي قد شــاعــا
في الـــــناس حبُّـهمْ لــهُ وذاعــــا
ليس كغيرِه لـــه أحـــكــــامُ
خـــصه يأتِــي بهـــا النــظـــامُ
وها أنا آخذُ في تــــعريـــــفِ
أحكـــــامه وشـــأنـــه الظريــفِ
فالحــــد فيهِ ما عليـــه صدُقــا
من غيـــــر قيدٍ اسمُ عيشٍ مطلقا
وطرحه إذ ذاك حتَّــــــى تذهبا
فورتــُـه صار لكلٍّ مذْهبـــــا
ومذهبُ التبــــــريد مذهبٌ قوِي
لخـــبرٍ عن النبـــــي قدْ رُوي
واصبُبْ عليهِ اللَّبن الإدامَا
وإن يكنْ دُهناً فــلا مــلا ما
فالدهــنُ والسكـرُ إن كان يُــنالْ
أحد ذيــن فهْو شرْطٌ في الكــمالْ
بل إنْ أتى بتلكُمُ الأوصَافِ
يسوغُ أن يُــؤكـــل وهـْـوَ حــافِ
لأنه قد كــملُــتْ مفـــــاخـِـرُه
أولُهُ “عيشٌ” و”عيــــشٌ” آخــرُهْ
و تنال الحوليات و تسجيل الأحداث التاريخية المحلية نصيبا ليس بالقليل في أراجيز أعلام هذا المنكب البرزخي كنظم العلامة محمد والد بن خالنا الذي يقول منه مؤرخا لوقعة “انتيتام” سنة 1040 هــ التي مهدت لبداية العهد المغفري و نهاية العهد الرزكاني في بلاد الترارزة :
و وقعة انْتِـــتَامِ عامُـــها “شِــــــمِ
صلاتــُنا علي النبــــي الهــــاشمـــــــي
و نــــظمِ العلامة بابكر بن إحجاب الفاضلي الذي اقتفي فيه نظم والد السالف الذكر و هو نظمٌ امتاز بسلاسته و انسيابه. يقول منهُ في الكلام علي أمراء أهل أعمر ولْ إعلي شنظورهْ :
و مات إعْـــــلِ الكـــَورِ عامَ شَــرَّ
مِنْ بعدِ هـــــزمِ ألْــفِه بالــــكَـــــرِّ
و ملَـكَـتْ من بعـــدهِ أقــــمـــارُ
ثـــلاثــةٌ خلَّفـــها المُــختـارُ
“عالِــــيتُ” و”امحمَّـــدْ” و نَجلُ كـُنْـــبَا
طودٌ منـــيعٌ لا يــُرامُ جـــنْــبَــــا
و
يقول منه في تفصيل ذرية دامانْ :
عُرفُ بني دامـانَ عِــنـدَ النَّاسِ
“عَـــتّامُ”، “زنــــُّونُ”، و” آلُ سَـاسِ”
وبقي الباقونَ كُــلٌ باسْمهِ
لكنَّ أحمدَ سما بوسْـمــهِ
و نظمِ “امييْ” الذي يقول في بدايته :
في عام “شاكــسِ” علي البِظانِ
قد طـلع الحاكِمُ “كبُّـلاني”
وقد أتي “إخْـــروفَ” بالنصـارى
وموطــــنٌ لهمْ هُـنـــاكَ صــارا
بَنَوْا بها ديارهم من طِينِ
يخافُـها كُلُّ فتًـى فَطِـينِ
ومحْصَرُ ابنِ سيد في ذا العامِ
قد طـلب الساحل بالمُــــقام
فجمع الساحلُ مَحصَـرينِ
فيهِ و شيخينِ و”كابــِتـَينِ”
و فيه قد أتت إلي إكِيدي
إنبُـوجَ من مكـانها البعــيدِ
ومِن الطريف ان “امييْ” سأله والده العلامة محمدفال بن محمذن “بَبَّها” عن انبوج هذه من تكون فَردَّ متخلصا : “إنها امرأةٌ اشتهرت بإكرام الضيفان”.
و في أحداث العام بعد شاكس يقول مشيراً إلى وفاة العلامة أحمذو بن زَيادْ :
و نجل زيَّـادٍ بموتـه انقضى
ما كان من علمٍ و زُهدٍ و قَـضَـا
و في أحدلث سنة 1330هـــ يقول في أمر الأمير سيدي احمد ولْ أحمدْ ولْ عيدَّ و ما كان من أسره في تيشيت و رجوعه إلي الإمارة بعد ذلك :
وَسيدِ أحمدٌ بِهِ قدْ صَارا
بالقهْـرِ من تيشيتَ في الأسارَى
و آل أمْرهُ إلي الإمارهْ
واستكمل الديارَ ر و العِـمَارَهْ
من بعدِ أن أُسِر و استـَكانا
ورُبَّ شَـرٍّ بدءَ خيــرٍ كانا
و قد واصل العلامة المختار بن المحبوبي اليدالي علي منوال اميي مسجلا أحداث عدة العقود التالية من القرن الرابع عشر الهجري في منظومة جيدة يكفيها حسنا أن منها قولهُ :
و عام باكٍ صَار في انْسفـالِ
إذْ مات فيه نجلُ أحمدْ فالِ
و يخلعُ التوحيدُ علي أنظامه جلالتهُ و قُدسيته، فتراها تشع بنور الحق إشعاعا يُــثلجُ الصدر و يُطمئنُ الفؤاد. يقول القطبُ العلامةُ الرباني الشيخ محمذن فال بن متالي التدغي في عقيدةٍ لو اقتصر عليها الجاهل و العالم لكفتهما :
و مُـــوقنٌ وُجود ربٍّ و اعـْــترفْ
بالعَجزِ عنْ إدراكـهِ فقدْ عرَفْ
غايةُ علم العُلما و مُــنتَـهى
عقولِ أربابِ العُقولِ و الـنُّهـَى
أن يقْـطعوا أن لهذا الخلقِ
مُخـترِعًا أوْجَـدهُ بالحَـقِّ
مُتِّصفًا بِصفةِ الكَمالِ
لقد أقبلت الأوساط المثقفة الموريتانية بشكل منقطع النظير ومنذ القديم على استخدام الأراجيز في الميدان العلمي تأسيا في ذلك بأعلام الأندلس من أمثال محمد بن مالك و محمد بن العاصم.
و قد وجد أهل هذه الربوع في الأراجيز العلمية “الأنظام” ضالتهم المنشودة، وهم بدٌو رحلٌ رمت بهم الأقدار في مجال جغرافي ينأى عن المراكز الحضرية بحيث تنعدم وسائل التقييد و التسجيل. و قد استطاع العلماء الموريتانيون أن يضعوا في متناول الجمهور مجموعة من المنظومات الغُرر لا تقل في فائدتها و نسجها عن مثيلاتها على مر التاريخ الإسلامي.
فمنظومة الواضح المبين في أصول الدين للعلامة عبد القادر بن محمد بن محمد سالم المجلسي، و منظومة سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم العلوي في أصول الفقه: مراقي السعود، و منظومة محمد مولود بن أحمدفال اليعقوبي الموسوي في الفقة: كفاف المبتدي، ومنظومة عبد الله بن الحاج حماه الله لرسالة تبن أبي زيد القيرواني و توشيح المختار بن بونه على ألفية بن مالك، و منظومتي البدوي المجلسي في الغزوات و في عمود نسب رسول الله صلي الله عليه و سلم … أصبحت في الوسط المحظري الموريتاني تحظى بنفس الاهتمام الذي تحظى به إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة للمقري، و تحفة الحكام لابن العاصم، و كافية محمد بن مالك، وعقود الجمان للسيوطي، و قرة الأبصار لعبد العزيز اللمطي …
و قد تناول العلماء هذه المنظومات بالشرح تارة و بالتذييل و التوشيح أحيانا أخرى.
و فضلا عن المنظومات الطويلة التي اكتست طابع التأليف حيث كانت في الغالب عقدا لتأليف نـثري متداول كجمع الجوامع لابن السبكي و تسهيل محمد بن مالك أو رسالة أبي محمد بن أبي زيد القيرواني، وحتى الشيخ خليل، فقد شاع في الوسط المحظري ظاهرة تسجيل الفروع، والأحكام، والشوارد، والنكت في أبيات قصيرة يسهل حفظها، تكتب في هوامش الكتب أو تقيد في ورقات يرمي بها في جانب من كنانيش المكتبات.
و مع مرور الزمن أخذ استخدام الأراجيز منحى جديدا يبتعد عن المجال العلمي التسجيلي المحض، ليدخل حيز الطرافة و الأدب و ليعرف البديع طريقه إليها في أحسن صوره. و في رأينا أن الرائد في هذا التوجه كان محمد النابغة الغلاوي (توفي 1245 هـــ/1829مــ). فمنظومته الاعتبارية: أم الطريد، ومنظومته في المعتمد من الكتب والأقوال في المذهب المالكي، كانتا فضلا عن قيمتيهما العلمية مجموعةً من المقطوعات الشعرية تـنبع بالطرفة والبديع حتى أصبحت تنشد في مجالس الشعر ويستحسنها ذائقو الأدب تماما كما يستحسنون مقصورة ابن دريد و حديقة ابن الونَّان.
فيقول في النظم الأول معتبرا بوفاة إمام “فُوتَ” : المامي عبد القادر :
وغدرتْ بالمــَامِ عـــبدِ القـادرِ
وغادرتهُ بيـــن كل غادرِ
وجيَّشـتْ لهُ من “البــــَــــــنابرِ
ما هدَّ ما بنـــــــاهُ من منــابرِ
وفات فُوتَ عدلُ ذاك الصــــــــالحِ
وأصبحوا من بعدُ قومَ صــــــالحِ
ويقول في النظم الثاني متكلما على أجوبة محمد بن ناصر الدرعي :
و جمعهمْ أجوبةَ ابنِ ناصرِ
لم يــكُنِ الشيـــــخُ لهُ بنــاصرِ
إذْ ما أرادَ كونـــــــهُ كالأمِّ
خوفَ اغترارِ جاهلٍ أو أُمِّـــــــــي
لأنهُ أجاب كُلَّ ســائلِ
بحسبِ السائلِ لا المـسائلِ
فطورًا أطلقَ و طــــورًا أجملا
مِن ثَم تركُ الكُـــــــــلِّ كان أجملا
و يقولُ في الكلام على الكتب التي لا تُعتمد في ما انفردت به، ممثلا لذلك بعلي الأجهوري المصري و تلامذته المعروفين: عبد الباقي الزرقاني والشبرخيتي والخِرشي والنشرتي :
بيانُ ما من كتبٍ لا يُعــــتمدْ
ما انفردتْ بنـــــقله طُول الأمــــدْ
من ذلكِ الأجــهوري معْ أتباعهِ
مع اطلاعهِ و طُـــولِ باعهِ
وما له قدْ قلتَ قلْ في الباقِــي
كالشبرخِِــيتي و عبد الباقي
لأنهمْ قدْ قلَّــــــدوا ما قالهْ
شيخهمُ و نقلوا أنقـــالهْ
ويصل نظمه إلى منتهى الطرافة حين يتكلم على شرح ابن مرزوق على مختصرالشيخ خليل، وهو الشرح الذي تناول أول المختصر و آخره، فصوَّر النابغة ذلك بإلباس ابن مرزوق مختصرَ الشيخ خليل سراويلَ و عمامةً :
و اعتمدوا مُختـــصر ابن عرفهْ
كذا ابنُ مرزوقٍ و عنْ منْ عرفهْ
بشرحهِ للشيخِ ما إنْ عمَّـــمَـهْ
لكنهُ سَرْوَلهُ و عمــَّــــمَهْ
وقد أشار العلامة المؤرخ المختار بن حامدن في ألفيته في أولاد سيدي الفالي إلى أن النابغة قد طرق نوعا من البديع لم يسبقْ إليه، و ذلك في مرثيته لشيخه العلامة أحمد بن العاقل التي جعل أعجاز أبياتها أشطارا من الألفية على وجه التورية، يقول المختار :
الحمد لله و بعدُ فالنَّـــــــــــــا
بغــــــةُ زاد في البديــــع فنـَّا
إذ ضمَّن الأعجاز من ألــــــــــفيهْ
مقاصدُ النــــحو بها محـــــويهْ
و ينبري العلامة الأديب سيدي محمد بن الشيخ سيديا في منظومة طويلة حلَّتها طرافةُ الموضوع و شاعرية الناظم، سجل فيها نبذا مما يعرف بهزليات أولاد ديمان. ففي مسرحية “وفد العيش” ، يقول سيدنا :
و سار وفدهــــم إلى العصـيدِ
يرضُــونه من بلــدٍ بعـــيدِ
حتى أناخوا عنده و سـلــَّموا
وبجَّـــلوا مقدارهُ و عظمّــَوا
وطربوا و حــــــكوا الأخبارا
وسمِروا و أنشدوا الأشـــعارا
فطرب العيش و طابت نفســُـــهُ
و طلعتْ بعدَ الأُفول شمْـــسهُ
و صار يهتـــــــزُ على الدوامِ
حتَّى خشـــــوْا إراقة الإدامِ
ويقول في قصة المرأة التي أطعمت ضيفها نعليه :
و من شــــوتْ لضيفها نعلـــيهِ
وقدمتــــهُما قِــــرًى إليهِ
و إذْ تغذَّى الضيفُ قالتْ لـمَّا
سألها “إنَّهما لثَمــَّا”
و في الجانب التراثي أيضا، تشكل منظومة المدافن للعلامة “المختار بن جنكي اليدالي” أكثر المنظومات السائرة على الألسنة بحيث تتحف السامع بخريطة جغرافية مفصلة لمزارات الصالحين وكبار العلماء مع الإشارة لبعض مناقبهم. فلاحظ حسن نظمه عندما يقول في الولي الصالح حبيب الله المختار الألفغي :
و صاحب الســــُمِّ حبيب اللهِ
فلا تكن عن زوره بالـــلاهي
أنوارهُ كالشمس في الظـــهيرهْ
صلَّى عليهِ ملزمُ الحــــظيرهْ
وعلى غرار منظومة “معشوقة البخاري” التي أتى بها صاحب الوسيط، يحتل النظم السردي جانبا مهما في هذا المجال.
فنرى العلامة امحمد ولْ أحمديورَ يسرد بعض ليالي البادية :
قد سبتِ التي سهـــرتُ ليــلي
من حبها حـــميدُ و الجُمـــيلِي
وابنُ الإمامِ أحــمد الــبر الأغرْ
فيه خــلافٌ عنهــمُ قد اشتــهرْ
همُ الأُلــى قدْ أسهرُوا الجمــيلهْ
في ليــلةٍ ذاتِ نــدًي طـــويلهْ
حتَّــى رأوْا من الصــباحِ نُورا
“ولــَّوْا على أعْـــقابهم نُفــورا”
و ناظمُ الأبـــــياتٍ ليسَ منهمُ
لكــنه بحُبها مُتـَّـــــــهمُ
وقد نظم القاضي محمذن بن محمدفال، على وجه المزاح، بعضا من تلامذة والده “لمرابط ببها” في منظومة يقول فيها :
بعضُ التلامــــيذ على المعانِي
قد فضــــل الألحان و الغوانـــي
و بعضهمْ يهـــتمُ بابنِ مالــكِ
ولمْ يكنْ لِرَســْـنهِ بمالـكِ
إلى أن يقول :
و النظمُ منْ أغضبهُ في الناسِ
“كحاملٍ خَطوة فــــــمْ الحاسِ”
لأنهُ عمَّ على التـَّـــــلامِي
فما علي فيه من مــــــلامِ
و إذا كانت شِعرية الأنظام التعليمية محل بحث الآن في بعض الأوساط الأكاديمية، فإننا نجزم بشعرية أنظام العلامة حمدن بن التاه نظرًا لسبكها و تدفقها و حسن موسيقاها. يقول في مواقف العلماء من الإفتاء في مستجدات العصر:
فبعضهمْ مال للانـــــــعزالِ
تورُعًا من هــــذه الأحــــــوالِ
و بعضُــهمْ مال للاجتـــــهادِ
مع انقـــــطاعهِ بكُـــــــلِ وادِ
فضاعتِ الأحكامُ بيـــــن ذينِ
وظهرَ الجهـــلُ على وجهــــــينِ
و يقول ناظما الخلاف في غسل الجمعة السني هل يحصل به غسل الجنابة الواجب مصورا ذلك في شكل ملحمة بين ابن القاسم و مخالفيه في المسألة :
كنانةٌ و نافـــــعٌ و الماجشـــونْ
أبناؤهم مع ابن وهبٍ قائـــــلون
ما قالهُ مطرفٌ : من اغتــسلْ
لِجمعةٍ غُسلُ الجـــــنابةِ حصلْ
وخالفَ الجميعَ نجلُ القاسمِ
وردّهمْ في حالةِ التقـــــــاسُمِ
و قالَ – إذْ حفَّتْ بهِ الأعِنَّـــــــهْ –
ما كنتُ أقضي واجبًا بسُــــــنّهْ
كما نجزم بشاعرية نظم العلامة محمد العاقب بن مايابي الجكني، يقول من نظمه لنوازل العلامة سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم العلوي متكلما على الديات :
و دية الرُّعافِ دينـــــارانِ
و الحُــــرُّ و الغـــيرُ بها سيّانِ
و خمسةٌ من العِـــرابِ : العقلُ
في ضربةٍ يـــزولُ منها العـقْـلُ
و لا نشك فيها في قول ابن زين القناني حين يؤرخ لوفاة العلامة الشيخ أحمدُّ بن اسليمان والعلامة الطبيب أوفي بن أبابكر الألفغي مؤرخا في نفس الوقت لأحدى الظواهر الجوية آنذاك:
و عام سينٍ بعد شيــــنٍ قدْ ظهـــرْ
من جهةِ المشـــرقِ نجــمٌ قدْ بـــهرْ
و”ابنُ سليمانَ” و “أوفـَى” رُحِما
و ثلــمةٌ في الدِّيــــنِ موتُ العُلما
و في الجانب البديعي، ومن أنظام المعاصرين، تشكل المنظومة الفريدة: “قرة العينين في غزوات سيد الكونين” للقاضي محمذن بن محنض باب “سيلوم” خير مثال في هذا المجال. و لنقف هنا عند بيتين نظم فيهما عدد قتلي المشركين يوم أحد و كانو اثنين و عشرين نصفهم من بني عبد الدار. و قد استخدم فضيلة القاضي في ذلك حساب الجمل متلاعبا بالألفاظ بمهارة لا تخفي :
و كُبَّ من كُفَار عبــدِ الدَّارِ
أيٌّ ” على وُجوهـــهمْ في النَّارِ
و كُبَّ أيٌّ من سواهمْ فالجميعْ
“كُبَّ” نعـــوذُ بالمُهيمن السميعْ
و تصل سلاسة و انسيابية النظم أقصاها في أنظام العلامة محنض باب بن أمين كالمباحث الفقهية، سلم المرتقين … فاستمع لقوله في نظمه: “المتوسط” عند الكلام على الامتهان ممثلا بقصة المازني الشهيرة مع الواثق و التي أشار لها البدوي في عمود النسب بقوله :
ذهل ابنها منها الإمامُ المــــازني
مقومُ اللــــحن لكل لاحـــنِ
يقول محنض بابَ :
و الامتهانُ منــــــهُ معــنويُّ
يغفلُ عنهُ الجاهلُ الغــــــبيُّ
و ليس مثلُ المـــــــازني يغفلُ
عنهُ و لا للحكمِ فيه يجـــــهلُ
فقدْ أبي نسخَ كتابِ نحوِ
لبعض آياتِ الكتابِ يحــــوي
معْ بذلِ مُستنـْـسخهِ لمائةِ
دينارٍ إذْ كان من أهلِ الذمَّـةِ
فعوّض الإله ُخيـرُ رازقِ
من مائةِ الذميِّ ألفَ الواثـقِ
و قد وصل اهتمام العلماء الموريتانيين بجودة الأنظام درجة أن أصبحت محل انتباه و مفاضلة من المهتمين بالأدب، فيروي أن العلامة محمد مولود بن أغشممت المجلسي.
– و كان حسن النظم – سلّم في جودته للعلامة محمد مولود بن احمد فال اليعقوبي الموسوي حين قال في مسألة الخلاف في العفو عن حكم خبث ما يتسرب من الدم في الفم مستخدما في ذلك لغة تشديد الميم في كلمتي : الفم و الدم :
قد رجح اللـــخميُّ طُــــهر الفمِّ
بِمَجِّ صافي الريــــقِ بعد الـدمِّ
دفعًا لِما يشِـقُّ و القويُّ
خلافُ ما رجَّحهُ اللخميُّ
و لا غرابة في إعطاء السبق لنظامة كالعلامة “محمد مولود” إذا ما علمنا أنه هو الذي يقول في الذكاة من نظمه المعروف : كفاف المبتدي :
و جاز ذبحُ الشاة من قَفَاها
لدى الثلاثة و من قَـفاها
و يعني بالثلاثة في البيت غيرَ مالك من الأئمة الأربعة، و هو الذي يقول في نظمه لمحارم اللسان متكلما على حرمة مد حرف الهاء بألفٍ في كلمة “إلهَ” و كذلك مد همزتها بياء عند الهيللة:
من زاد بعد هَا “إلهَ” الهـاوِيَا
مُهـَلِّـلاً أو مدَّ همْــزَها بِيَا
عصى بإجماعٍ من الأنـاصِـي
وعبَدَ الإلـهَ بالمعاصِـي
و تجد المحسنات البديعية المعروفة في الشعر كالاقتباس و التلميح و التضمين والجناس و لزوم ما لا يلزم طريقها إلي الأراجيز في أحسن هيئة، فيقول القاضي محمذن بن محمد فال (اميي) في دائنٍ أعرض عن التصريح بهويته حين استوضحه بعضهم :
دَينُ أبي ليلـــي به إن أمــــهلا
فـَــــهُو دينٌ لا يموتُ المَـــثَلا
و لو بدا من شـــــأنه النقصـــانُ
وعاقَ عنهُ البعدُ و الليـَّانُ
لأنه لا بدَّ من لِقائــهِ
يوماً و لامحيدَ عن قَضائهِ
و يقول القاضي محمذن بن محنض باب “سيلوم” في التعريف بالشفّاء بنت عوف الزهرية قابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم و و الدة صاحبه تاجر الرحمن عبد الرحمن بن عوف :
و نجــــلُ عوفٍ أمُّـهُ الشفَّــــــــاءُ
قابلـــةٌ في قولِها شِفاءُ
و لتعـــــرفنَّ نســـــبةَ الشَُفَّاءِ
منْ كُلِّ عوفٍ خِـيـــفةَ الخَـــفـاءِ
فزوجُها عوفٌ و عبدُ عوفِ
عـَمٌّ لها و هــِــي بنت عوفِ
و يقول في تحديد إحداثيات “حُنين” مستعرضا في الوقت نفسه مختلف تسميات الغزوة في قرب مأخذٍ فريد:
حُنينُ وادٍ قُربَ ذي المجــازِ
وسوقُ ذي المجاز بالحِـجازِ
و بزُهــــــاءِ فرسخٍ من “عـَرفهْ”
قدَّر قدْرَ بُعده مَن عَـرَفــهْ
به الغزاةُ سُمِّيـتْ و بِهــــَوا
زِنَ وأوْطاسٍ علي حــــــــدِّ السَّوا
و من نظم مكفرات الذنوب نورد هذين البيتين :
و من يُـــصلِّ ركعتــَــيْ ضُــــحاهُ
مُبتغـِــــيًا بها رِضَــــــــــي مولاهُ
فاز بغــُــــفرانٍ من الــقديمِ
لذنبهِ الحادثِ و الــــقديـمِ
و علي غرار منظومة الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا في الهزليات، أتحفنا أدباء منطقة إكيدي بمجموعة من المنظومات التراثية الشيقة، تستريح لها النفس و يهش لها الفؤاد. يقول امييْ في نظم لكزانهْ :
حمدًا لمن كَــــسا الحِـــجا غِــــشاءَ
و لمْ يـــــُرِ الغيبَ سوي من شــَـاءا
ثُمَّ السلامانِ علي خيـــرِ شَـــفيــعْ
و الآل و الصَّحْبِ أولي القدر الرفــيعْ
و بعدُ فـالإكْـــزانَ محضُ السَّــــــفهِ
لا تثقـــــــنْ بما أتي فيها فهِــــي
لم يعتــــقدْها غيرُ ذي تزنــــــــدُقِ
فلمْ نُــكَـذِّبْـها و لمْ نُصـدِّقِ
و قدْ نظمــــــــتُها لقـــــومٍ طلبوا
تفـــــاؤلاً و هْي لـــِذاك تُجـــــلبُ
و نظمُها قدْ كان بالتــــــــركِ قــَمِـنْ
و كُلُّ شيءٍ عِــــــلمُهُ أفضــــــلُ مِنْ
إلي قوله :
و” تذكر الطريقِ” عندهُـمْ قَضَا
حاجٍ وكَـسْوةٍ و للهِ القَـضَا
و قد رويْــتُ كلَّ ذي الأخْبارِ
عمّنْ روي عن ابنـــــــةِ البربــــارِ
و لا غرابة أن يحظي “العيش” و هو غالب قوت أهل إكيدي باهتمام الناظمين من أهل ذلك المحيط. يقول الشاعر أبو بكر بن محمذن بن أبي بكر الفاضلي في أدبياته من منظومة لا يخفي فيها حسه المرهف و قريحته الفريدة :
و بعد ذا فذا نُظـــــيمٌ إن صَــــلحْ
فيهِ سدادُ عـــــوَزٍ من المُــــــــلَحْ
سميته إذن “مُزيـــــــلَ الـــفيشِ
بين المطـــــاعم وبين الـــــــعيشِ”
فهْي و إن تكاثرت ألوانُها
ثم تفاوتتْ لــــذا أثمانُها
أيسرها العيش وفي ما كانا
أيسرَ يرْعى العاقلُ الإمكانا
فبينَ أمرين إذا مــــا خُيـِّـرا
نبيُّـنا اخــتار الأخــفَّ الأيــْـســـرا
وفيه جُل عيش أهــــل القبــلـــةِ
وفقــــدُه علــــةٌ أيُّ عِلـَّــــــةِ
إذ لم يكُ القمحُ لهـــم معــروفـا
ولا الثــــريد عندهمْ مألوفا
فعيش ديــْـمانَ الـــذي قد شــاعــا
في الـــــناس حبُّـهمْ لــهُ وذاعــــا
ليس كغيرِه لـــه أحـــكــــامُ
خـــصه يأتِــي بهـــا النــظـــامُ
وها أنا آخذُ في تــــعريـــــفِ
أحكـــــامه وشـــأنـــه الظريــفِ
فالحــــد فيهِ ما عليـــه صدُقــا
من غيـــــر قيدٍ اسمُ عيشٍ مطلقا
وطرحه إذ ذاك حتَّــــــى تذهبا
فورتــُـه صار لكلٍّ مذْهبـــــا
ومذهبُ التبــــــريد مذهبٌ قوِي
لخـــبرٍ عن النبـــــي قدْ رُوي
واصبُبْ عليهِ اللَّبن الإدامَا
وإن يكنْ دُهناً فــلا مــلا ما
فالدهــنُ والسكـرُ إن كان يُــنالْ
أحد ذيــن فهْو شرْطٌ في الكــمالْ
بل إنْ أتى بتلكُمُ الأوصَافِ
يسوغُ أن يُــؤكـــل وهـْـوَ حــافِ
لأنه قد كــملُــتْ مفـــــاخـِـرُه
أولُهُ “عيشٌ” و”عيــــشٌ” آخــرُهْ
و تنال الحوليات و تسجيل الأحداث التاريخية المحلية نصيبا ليس بالقليل في أراجيز أعلام هذا المنكب البرزخي كنظم العلامة محمد والد بن خالنا الذي يقول منه مؤرخا لوقعة “انتيتام” سنة 1040 هــ التي مهدت لبداية العهد المغفري و نهاية العهد الرزكاني في بلاد الترارزة :
و وقعة انْتِـــتَامِ عامُـــها “شِــــــمِ
صلاتــُنا علي النبــــي الهــــاشمـــــــي
و نــــظمِ العلامة بابكر بن إحجاب الفاضلي الذي اقتفي فيه نظم والد السالف الذكر و هو نظمٌ امتاز بسلاسته و انسيابه. يقول منهُ في الكلام علي أمراء أهل أعمر ولْ إعلي شنظورهْ :
و مات إعْـــــلِ الكـــَورِ عامَ شَــرَّ
مِنْ بعدِ هـــــزمِ ألْــفِه بالــــكَـــــرِّ
و ملَـكَـتْ من بعـــدهِ أقــــمـــارُ
ثـــلاثــةٌ خلَّفـــها المُــختـارُ
“عالِــــيتُ” و”امحمَّـــدْ” و نَجلُ كـُنْـــبَا
طودٌ منـــيعٌ لا يــُرامُ جـــنْــبَــــا
و
يقول منه في تفصيل ذرية دامانْ :
عُرفُ بني دامـانَ عِــنـدَ النَّاسِ
“عَـــتّامُ”، “زنــــُّونُ”، و” آلُ سَـاسِ”
وبقي الباقونَ كُــلٌ باسْمهِ
لكنَّ أحمدَ سما بوسْـمــهِ
و نظمِ “امييْ” الذي يقول في بدايته :
في عام “شاكــسِ” علي البِظانِ
قد طـلع الحاكِمُ “كبُّـلاني”
وقد أتي “إخْـــروفَ” بالنصـارى
وموطــــنٌ لهمْ هُـنـــاكَ صــارا
بَنَوْا بها ديارهم من طِينِ
يخافُـها كُلُّ فتًـى فَطِـينِ
ومحْصَرُ ابنِ سيد في ذا العامِ
قد طـلب الساحل بالمُــــقام
فجمع الساحلُ مَحصَـرينِ
فيهِ و شيخينِ و”كابــِتـَينِ”
و فيه قد أتت إلي إكِيدي
إنبُـوجَ من مكـانها البعــيدِ
ومِن الطريف ان “امييْ” سأله والده العلامة محمدفال بن محمذن “بَبَّها” عن انبوج هذه من تكون فَردَّ متخلصا : “إنها امرأةٌ اشتهرت بإكرام الضيفان”.
و في أحداث العام بعد شاكس يقول مشيراً إلى وفاة العلامة أحمذو بن زَيادْ :
و نجل زيَّـادٍ بموتـه انقضى
ما كان من علمٍ و زُهدٍ و قَـضَـا
و في أحدلث سنة 1330هـــ يقول في أمر الأمير سيدي احمد ولْ أحمدْ ولْ عيدَّ و ما كان من أسره في تيشيت و رجوعه إلي الإمارة بعد ذلك :
وَسيدِ أحمدٌ بِهِ قدْ صَارا
بالقهْـرِ من تيشيتَ في الأسارَى
و آل أمْرهُ إلي الإمارهْ
واستكمل الديارَ ر و العِـمَارَهْ
من بعدِ أن أُسِر و استـَكانا
ورُبَّ شَـرٍّ بدءَ خيــرٍ كانا
و قد واصل العلامة المختار بن المحبوبي اليدالي علي منوال اميي مسجلا أحداث عدة العقود التالية من القرن الرابع عشر الهجري في منظومة جيدة يكفيها حسنا أن منها قولهُ :
و عام باكٍ صَار في انْسفـالِ
إذْ مات فيه نجلُ أحمدْ فالِ
و يخلعُ التوحيدُ علي أنظامه جلالتهُ و قُدسيته، فتراها تشع بنور الحق إشعاعا يُــثلجُ الصدر و يُطمئنُ الفؤاد. يقول القطبُ العلامةُ الرباني الشيخ محمذن فال بن متالي التدغي في عقيدةٍ لو اقتصر عليها الجاهل و العالم لكفتهما :
و مُـــوقنٌ وُجود ربٍّ و اعـْــترفْ
بالعَجزِ عنْ إدراكـهِ فقدْ عرَفْ
غايةُ علم العُلما و مُــنتَـهى
عقولِ أربابِ العُقولِ و الـنُّهـَى
أن يقْـطعوا أن لهذا الخلقِ
مُخـترِعًا أوْجَـدهُ بالحَـقِّ
مُتِّصفًا بِصفةِ الكَمالِ
مُنَزَّهًا عنْ ضدها المُحالِ
عز الدين بن ڭراي بن أحمد يورَ
مُنَزَّهًا عنْ ضدها المُحالِ
عز الدين بن ڭراي بن أحمد يورَ