قدرة الإنسان على التكيف واستغلال الطبيعة لتذليل قسوتها، هما العاملان الأساسيان في استمراره وتسيده الحياة على الأرض، في مرحلة جمع الثمار استغل الأغصان والحجارة كوسائل دفاع ضد الحيوانات المفترسة، واكتشافه النار حَوَّل عدوه المفترس إلى جزء من نظامه الغذائي، فطوَّر وسائل دفاعه إلى آلات صيد أخرجته من الارتهان لعشوائية الثمار الموسمية إلى حياة الصيد التي أعطته تحكما نسبيا في غذائه،

لكن نقلته النوعية كانت اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوان، فاستطاع بما منحته من وفرة في الغذاء، العيش في جماعات أكبر من جماعات جمع الثمار وجماعات الصيد، فكانت بداية التحضر بما وفرته الزراعة من استقرار، وما أظهر كبر الجماعات من احتياجات حفزت الابتكار في أوقات فراغ منحتها وفرة الطعام في التجمعات الزراعية وتطوير وسائل تخزينه.

 التكيف مع تقلبات الطبيعة ومع تغيّر أنماط العيش فرض على المجموعات تقسيم الأدوار بين أفرادها كل حسب إمكانياته، فتغيرت بنية جماعات البشر بتغير أدوار أفرادها من نمط عيش لآخر، فتساوي الجهد في جمع الثمار ساوى بين الرجل والمرأة في مجتمع جمع الثمار، -وإن قدَّس المرأة لامتلكها معجزة منح الحياة الضرورية لاستمرار الجماعة-، وخلصت سيادة المجتمع للمرأة في جماعات الصيد لِمَا فرض على الرجل من غيابٍ بحثا عن الطرائد… وربما المرأة هي من استأنست الحيوان واكتشفت الزراعة أثناء مكوثها في مضارب جماعة الصيد، وهي من ابتدعت الصناعة والتجارة، فمعظم التقدم الذي أصاب الحياة الاقتصادية في المجتمع البدائي يعزى للمرأة، فبينما ظل الرجل قرونا متمسكا بأساليبه القديمة من صيد ورعي، كانت المرأة تطوّر الزراعة قريبا من محال السكنى، وتباشر تلك الفنون المنزلية التي أصبحت فيما بعد أهم ما يَعرف الإنسان من صناعات، غزلت الخيط ونسجت الصوف وصنعت السلال وأواني الطين والخشب والخزف وأدوات البناء، ومن تبادل الأدوات والآلات بدأت المرأة أولى صور التجارة، وطوّرت الدار، واستطاعت بالتدرج أن تضيف الرجل إلى قائمة ما استأنسته من حيوان في قول مؤرخ الحضارة “ويل ديورانت”.

في هذه الأطوار من حياة البشر كانت المجتمعات أمومية، تتمحور فيها العائلة حول الأم وتعيش هي وأبنائها في كنف القبيلة، وينتقل الرجل بموجب الزواج من قبيلته إلى قبيلة زوجته، والأنساب يقتفى أثرها في جانب الإناث، والتوريث عن طريق الأم، وزعامة القبيلة والملك يتبع دم الأم، ومع تقدم الزراعة وزيادة غلة الأرض وزيادة قطعان الماشية المستأنسة، أخذ الجنس الأقوى بدنيا يستولي على زمام الأمور شيئا فشيئا، وأقبل على الزراعة بعد أن كان يضرب صيادا في مناكب الأرض، وزاحم الرجال النساء وسائل زعامتهن الاقتصادية، واستُخدم الحيوان في حرث الأرض، وأدى استبدال المحراث بالمعزقة التي تتطلب قوة بدنية إلى انفراد الرجل بالزراعة كما انفرد بالقطعان التي تطلبت زيادة أعدادها قوة بدنية لرعيها وحمايتها، وانفرد بالتجارة بعد ما تطورت من تبادل الأواني والآلات بين أفراد القبيلة إلى تبادل بين القبائل، وتطلبت مخاطرة في السفر واستعدادا للقتال.

 صارت الملكية للرجل، وبدأت المجتمعات الزراعية تتحول من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي، وغدت الثروة تنتقل عن طريق نسب الرجل، وزعامة القبيلة والملك يورث عن طريق دم الأب، وأصبحت الأسرة الأبوية هي الوحدة الاقتصادية والشرعية السياسية والخلقية في المجتمع، وباحتكار الرجل لمصادر الغداء والثروة والسلطة، صارت حياة المرأة وابنائها تابعة كليا للرجل، ثم ملكا تنتقل مع المتاع من الأب إلى ملك أخيها وارث الثروة، ومن أحدهما إلى زوجها الذي يدفع مقابل التمتع بها مهرا يعوض عن خسارة بيت مالكيها الخدمات التي كانت تؤديها كمدبرة منزل.

 لم يكن تطور المجموعات البشرية متزامنا لاختلاف بيئة وظروف حياة كل مجموعة، ولم يتخذ مسارا محددا عند كل مجموعة لتقلبات الطبيعة وتغير المحيط، وهو ما أعطانا فسيفساء التقاليد والعادات المختلفة من مجتمع لآخر باختلاف بيئته ومصادر غذائه وثروته المحددة لأدوا أفراده وعلاقاتهم وقيمتهم في الجماعة، ومع كل انتقال من نمط عيش لآخر، تحتفظ الذاكرة الجمعية للمجموعة بعاداتٍ من نمط العيش السابق لتصبح عرفا يتخذ مع الزمن شكل تعاليم أخلاقية تصل حد التقديس، ويشكل مع مكتسبات نمط العيش الجديد، معارف المجموعة ومسلماتها المؤطرة لعمل عقول أفرادها والموجهة لعملية تفكيرهم، أي عقلهم المكوِّن حسب تعبير “لالاند” في تمييزه بين النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والتعلم والتحليل ويسميه عقلا مكوِّنا بكسر الواو، وبين مجموع القواعد والمسلمات والمبادئ التي نستعملها في استدلالاتنا والتي تعطى قيمة مطلقة في جماعة ما ويسميها العقل المكوَّن بفتح الواو، وهو ما يطلق عليه العقل السائد أو العقل الجمعي الذي نفكر ونقرر ونتصرف تأسيسا على مسلماته ومبادئه وفي حدود قيمه المطلقة وخلاصاته

ولأن مسار المجموعات البشرية يتشابه إلى حد ما في مسيره من حياة جمع الثمار إلى التمدن والتحضر، ولتأثير المجموعات على بعضها البعض بالغزو والهجرات والاستيطان والتجارة وتبادل التجارب والمعارف، ولأن الأمم الأسبق للتمدن والتحضر أقدر على نشر عاداتها وتقاليدها ومعارفها لقوتها التجارية والعسكرية ولتمكنها من تخليدها وتيسير تناقلها بتطور الكتابة والتأليف، فقد عولمت عقلها المكوَّن من النظم الأبوية، المتمركزة حول الرجل المزدية للمرأة المنتهكة لإنسانيتها إلى درجة جعلها أس الشر ومبدأه بل والحط منها لدرجة الحيوان والشيء…

وهذا العقل المكوَّن المُعولم المتطرف في بعض نظمه الأبوية هو الذي عنت سيمون دي بوفوار في قولها إنَّ المرأة لم تولد امرأة بل صارت كذلك… ، كانت تقصد هذا العقل الجمعي العالمي الذي تكون على مدى عصور من تقلبات عيش البشر، والذي تجذر لدرجة أنه صار عقيدة عبادة عند شعوب وموروثا دينيا عند أخرى يقارب منزلة العقيدة المقدسة، وعقلا جمعيا تستقى منه مسلمات ومبادئ تفكير أغلب المجتمعات في المرأة وتتحرك العقول في حدوده وتقرر بتأطيره

وليست المرأة الموريتانية بدعا من النساء في العالم وإن حظت ببعض موروث المجتمعات الأمومية الغانو-ولاتية القريبة العهد في منطقتنا والذي حفظ لها بعض تقدير تكاد تجهز عليه المنظومات الفكرية متطرفة الأبوية القادمة من نجد ومن المشرق العربي الإسلامي، ولنعرف وضع المرأة الموريتانية اليوم وما ستكون عليه في المستقبل -إذا لم نبادر بإعادة بناء عقلنا الجمعي الذي نفكر في إطاره- فما علينا إلا استظهار ما يراد له أن يكون من مسلماتنا وما ينحت على منوالها من مقولات تكوِّن عقلا نفكر في إطاره ومن خلاله عندما نفكر في المرأة، والتي على أسسها تنظر المرأة لنفسها وترسم خط حياتها وفقا لقوالبها، وسنتفاجأ بحجم التطابق بين موروثنا المنسوب للدين كذبا وافتراءا وبين موروث الشعوب الغابرة في الحضارات البدائية وموروث أديانها الوثنية في اليونان والهند والصين

تحت شعار ما نزل بلاء من السماء إلا وسببه النساء، يسطر موروثنا المستورد مقولات تربط الشر بالمرأة وتجعلها أكبر مشاكل الإنسان (الرجل) وامتحانه في الدين والدنيا، ولإعطاء المقولات تأثيرا أكبر، نسبت لخاتم النبيئين ﷺ وصحابته رضوان الله عليهم، فنجد أحاديث وضعت للمطابقة بين المرأة ورمز الشر في الدين، فهن (حبائل الشيطان)1 ، (ويقبلن في صورة شيطان ويدبرن في صورة شيطان)2 ، (وهن عورة إن خرجن استشرفهن الشيطان)3، وتنتقل المقولات من الرمز في الأحاديث الموضوعة على لسان الرسول ﷺ إلى التفصيل الذي يوضع على لسان أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، فيفترى على علي كرم الله وجهه أنه قال: (النساء شر كلهن، وأشر ما فيهن عدم الاستغناء عنهن، ومع أنهن ناقصات العقل والدين، فإنهن يحملن الرجل على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين)

ولحسن الحظ يمكن تتبع الأصول الحقيقية لهذه المقولات الموضوعة على ألسنة خير البرية وصحابته الكرام، بالنظر في موروث الحضارات السابقة لعصر التدوين العباسي، عصر تشكيل بنية العقل العربي بتعبير الجابري، حضارات اليونان والهند والصين حيث راكمت قرونا من ترسخ النظام الأبوي ومن ثقافة شيطنة المرأة وربطها بكل شر يصيب الرجل-الإنسان،

إذ نجد العقل الجمعي اليوناني يفسر معضلة الشر في العالم بأسطورة خلق المرأة “پندورا”، فبعد سرقة “برومثيوس” النار من السماء وإعطائها للإنسان، غضب كبير الآلهة “زيوس” وأمر الآلهة التابعة أن تخلق امرأة تمنع الرجل-الإنسان من استغلال هدية “برومثيوس”،فمزج “هفستوس” التراب والماء وشكل الطين امرأة حسناء القوام جميلة الوجه، ونثرت “أفرديتي” عليها الرشاقة والشهوة والملاحة والقلق الذي يتلف الأعضاء، وزرع فيها الرسول “هرمس” عقلا كعقل الكلب وأخلاقا كلها ختل ودهاء… وسميت المرأة “پندورا” لأن كل الساكنين في “الأولمب” قد ساهموا في تشكيلها لتؤذي الإنسان…. وبعد أن يقدم “زيوس” “پندورا” إلى الإنسان-الرجل وأمن “إپيمثيوس” لها وسكن إليها، عمدت “پندورا” إلى فتح الصندوق الذي جمع فيه الإله “پروميثيوس” الشرور وأحكم إغلاقه، وأوصى بعدم فتحه، فخرجت إلى العالم عشرة آلاف شر وشر لم تكن لتصيب الإنسان-الرجل لولا المرأة….

ونفس المعنى تحدثنا عنه القصص الصينية التي تربط الشر بالمرأة “پوسي” في قصص “شي چنغ”:

فكل الأشياء كانت في بداية الأمر خاضعة للإنسان، ولكن امرأة ألقت بنا في هذه المعاناة، فشقاؤنا لم يأتنا من السماء بل جاءت به امرأة، لأنها هي التي أضاعت الجنس البشري… ف”پوسي” من أشعلت النار التي أحرقتنا والتي تزداد كل يوم ضراما، لقد ضاع العالم، وطغت الرذيلة على كل شيء بسبب خطيئة المرأة..

ويؤيد تشريع “مانو” الهندي فلسفة أنثوية الشر حين ينص على أن مصدر العار هو المرأة، ومصدر العناء هو المرأة، ومن أنزل الإنسان من نعيم السماء إلى جحيم الأرض هي المرأة وإذن: فإياك والمرأة فهي أس شقاء الإنسان

وليس غريبا، في إطار هذه المسلمات والأسس الدينية، أن يخلص عقل فلسفي ورياضي جبار كعقل “فيتاغورس” إلى أن هناك مبدأ خير انبثق من النظام والنور والرجل، ومبدأ شر خلق الفوضى والظلمة والمرأة.

لم تكن الحضارة لتتقدم لو لم تبن كل أمة عصر نهضتها على موروث سابقاتها الثقافي والعلمي، فمن موروث “سومر” و”بابل”

 شكلت الحضارة الهندية والصينية، وبني العقل اليوناني من موروث بابل ومصر والهند، ومزجت الحضارة العربية بين روحانية الهند ونظم الفرس البابلية وعقل الاسكندرية “الهليني” وبين روحها الإسلامية التي حولت أعراب الجاهلية إلى صناع حضارة وعلم، بيد أن تأخر تدوين أسس دفعتها الأولى بقرن ونيف، أدخل على عقلها المكوَّن بعض بقايا جاهلية أصحابها والكثير من المفاهيم السياسية والاجتماعية التي وجدتها عند أمم الحضارات السابقة، ومع أن الموروث السياسي يشهد منذ عقود جهودات جبارة لتنقيته مما ساد فيه من تأليه للحاكم حوله من راع لشؤون الناس العامة إلى راع لرعية يحسن إذا أحسن إليها ولا يأثم إذا باع منها أو ذبح، وما شابه ذلك من كوارث فقهية على تعبير الدكتور محمد المختار الشنقيطي، إلا أن كوارث الموروث الاجتماعية لم تشهد بعد نفس القدر من الشجاعة لتعريتها وفضح زيف نسبتها للدين كما كشفت كوارث الموروث السياسي…

إنها كوارث جذرت في عقولنا -ذكرانا وإناثا- أن نصف مجتمعنا دون نصفه الآخر، فهن ناقصات منذ خلقهن الأول من جزء من إنسان، ومحاولة اعتبارهن بشرا كاملا عبث وإتلاف لهن، (فإن المرأة خلقت من ضلع… وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج)5، (ونقص الخلق جعلهن ناقصات عقل ودين يسلبن لب الرجل فيجذبنه إلى ما جبلن عليه من نقص في العقل والدين)6، (وما في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)7، (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)8، (ولم يكن كفر من مضى إخال من قبل النساء)9، (وكثرتهن من أشراط الساعة بعد أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا ويقل الرجال فسيكثر النساء حتى يكون على خمسين امرأة قيم واحد)10، (وناقصة الخلق والعقل والدين لها عشر عورات فإذا تزوجت ستر الزواج عورة وإذا ماتت ستر القبر التسع الباقيات)11، وهي في الزواج مملوكة: (فإذا تزوج أحدكم أو اشترى خادما)12،(فإياه ومشاورتها فإن رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن)13،(ولا يسأل الرجل فيما ضرب زوجته)14(، لكن، ليجلد أحدكم امرأته جلد العبد فلعله عاد يعانقها ويجامعها)15، (ولو كان لشيء أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)16، وبالمهر يشترى حق التمتع بها، فتصير متاعا مثلها مثل الدار والبهيمة: (فرجل ملك بضع امرأة أو بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها أو اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها)17، (ومثل المرأة الصالحة بين النساء مثل الغراب الأعصم بين مائة غراب)18، (وإنما الشؤم في الفرس والمرأة والدار)19، (وصلاة الرجل يقطعها الحمار والمرأة والكلب الأسود)20، (وفي الآخرة هن أكثر أهل النار)21، (وإن أقل ساكني الجنة النساء)22…..

رأينا من قبل عند اليونان إشارات لنقص خلق المرأة لما خلقت “پندورا” على عجل من أبعاض ناقصة، ورأينا بهيميتها في عقل الكلب الذي زرع فيها الرسول “هرمس”، لكن الصورة تكون أوضح في أسطورة خلق المرأة في الميثولوجيا الهندية:

 فإن الإله “تواشتري” حين أراد في البداية أن يخلق المرأة وجد أن مواد الخلق نفذت كلها في صياغة الرجل، ولم يبق لديه من العناصر الصلبة بقية، فطفق يشكل المرأة من القصاصات والجذاذات التي تناثرت من عمليات الخلق السابقة، يختار قصاصة من هنا وجذاذة من هناك…. فأخذ استدارة القمر وتثني الزواحف ونظرات الغزال وتقلب الريح وجبن الأرنب وزهو الطاووس وحلاوة العسل وقسوة النمر… ومزج كل هذه العناصر مزجا صنع منه امرأة ناقصة قدمها الإله هبة للرجل…

وأساطير النقص والبهيمية وجهت منطق “أرسطو” للقول: صارت المرأة امرأة لنقص فيها وعليها أن تلزم بيتها كتابعة لزوجها، ومنها استمد تشريع “مانو” الهندي الذي ينص على أن المرأة طول حياتها ينبغي أن تبقى تحت إشراف الرجل.. فأبوها أولا، وزوجها ثانيا، وابنها ثالثاً… وهي على قول الشاعر اليوناني “هيوناكس” لا تسعدك في الحياة إلا يومين، يوم زفافها ويوم دفنها، ولحصير في البيت خير من امرأة لا تلد

يرى الجابري في تبنيه لنظرية “لالاند”: «أن التفكير يتم بواسطة العقل المكوَّن (السائد) أي جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة الموروثة في مجتمع ما كأساس لاكتساب المعرفة»، وقد حاولت فيما سبق تتبع أصول بعض موروثنا الثقافي الموجه لعملية تفكيرنا السلبي عن المرأة، وسأحاول فيما يأتي أن أتتبع أصول موروثنا الثقافي الإيجابي المهدد بالاندثار، والذي ميزها بعض الشيء عن نظيراتها في الشعوب التي نشترك معها في الموروث السلبي….

عزلت الجغرافيا سكان منطقتنا عن مناطق الحضارة، فلم يصل أسلافنا ما عرفت تلك الأمم من تقدم في الزراعة والتمدن والصناعة والعلم، ولم يصلهم كذلك ما رافق هذه التحولات الاقتصادية من تحولات اجتماعية أنتجت أكثر النظم الأبوية تطرفا، فبقي أسلافنا مجتمعا أموميا حتى عهد قريب نسبيا، ومن أهم دول أسالفنا مملكة غانة التي نجد صورة عن نظمها الأموية بين القرن العاشر ميلادي والقرن الحادي عشر، فيما أورد المؤرخ المختار ولد حامدن في كتاب “التاريخ السياسي لموريتانيا” نقلا عن “البكري:” «ومذهبهم في غانة أن الملك لا يكون إلا في ابن أخت الملك»، وينقل لنا ابن بطوطة في القرن الرابع عشر صورة أكثر تفصيلا عن مجتمع أسلافنا في مدينة ولاتة، وريثة الدور التاريخي لمدينة كومبي الصالح عاصمة مملكة غانة في رأي الدكتور حماه الله ولد السالم.

ويقول ابن بطوطة عن مجتمع “مسوفة” الذي عايش في ولاتة:” «وشأن هؤلاء القوم عجيب، وأمرهم غريب، فأما رجالهم فلا غيرة لديهم، ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه، بل ينتسب لخاله، ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه. وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار “بالدالمليبار” من الهنود. وأما هؤلاء فهم مسلمون محافظون على الصلوات وتعلم الفقه وحفظ القرآن. وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال، ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات.

ومن أراد التزوج منهن تزوج، لكنهن لا يسافرن مع الزوج، ولو أرادت إحداهن ذلك لمنعها أهلها. والنساء لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب، وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات. ويدخل أحدهم داره، فيجد امرأته ومعها صاحبها، فلا ينكر ذلك». ويتابع ابن بطوطة القادم من مجتمع متطرف الأبوية متشبع بثقافة الحريم، إلى مجتمع نصف أمومي لم تصله بعد سلبيات التحولات الاجتماعية التي رافقت الانقلابات الحضارية: «دخلت يوما على القاضي “بإيولاتن” (ولاتة) بعد إذنه في الدخول، فوجدت امرأة صغيرة السن بديعة الحسن، فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع، فضحكت مني ولم يدركها خجل. وقال لي القاضي: لم ترجع؟ إنها صاحبتي. فعجبت من شأنهما، فإنه من الفقهاء الحجاج» ، «ودخلت يوما على أبي محمد يندكان المسوفي فوجدته قاعدا على بساط، وفي وسط داره سرير مظلل، عليه امرأة معها رجل قاعد، وهما يتحدثان فقلت له: من هذه المرأة؟ فقال هي زوجتي، فقلت: ومن الرجل الذي معها؟ فقال: هو صاحبها ، فقلت له: أترضى بهذا؟ وأنت قد سكنت بلادنا، وعرفت أمور الشرع.

فقال لي: مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وأحسن طريقة، لا تهمة فيها، ولسن كنساء بلادكم.

 فعجبت من رعونته، وانصرفت عنه، فلم أعد إليه بعدها. واستدعاني في مرات فلم أجبه».

ولا غرابة إذا لم يجب ابن بطوطة دعوة مضيفه، فثقافة الحريم ونقصان الخلق والدين والبهيمية لن توجه عقل ابن بطوطة إلا إلى أن صاحبه ديوث وزوجته عاهرة، أما ثقافة أهل “إيولاتن” فعلى الفطرة الأمومية الأولى ولم تعرف بعد عقد أهل الحضارات وعهر تفكيرهم.

ونستطيع فهم الصدمة الثقافية التي وقعت لابن بطوطة من صديقه فهما أدق إذا طالعنا نقل الأستاذ بشير العبيدي لانطباعاته عن المرأة الموريتانية في أول زيارة له إلى موريتانيا والتي دونها في مقال حمل عنوان “رقصة اليراع” حيث يكتب الأستاذ:

«ولستَ، أيها النّاظر سوى عند باكورة الأعاجيب. فتلك الموريتانيّة، لا تطول بها الثّواني، حتى تقترب منك، وتسبقك بين يديها لغة موجات لا أخال أهل الفيزياء قد فقهوا ترميزها، وتجلس حيث انتهى بها المجلس، لا فرق عندها أبداً أن يكون بجانبها حيث جلست شيخٌ مهيبٌ، أو شابٌّ أريبٌ أو بعيدٌ أو قريبٌ. تستدير الموريتانيّة قبل الجلوس في نصف دائرة، كتلك النّحلة الرّاقصة التي تحوم حول بتلات الزّهر تسترقُ أيسر السّبل لجني الرّحيق النّصوح، ثم تهوي بالجلوس، مسلّمة، مبتسمة. إنّها تستوي في جلستها، بجانب أخيها الرّجل، وتتبادل معه أطايب الحديث، كأنّها ومحدّثها في خاصّة أسرتها..»..

ويتابع العبيدي في فقرة أخرى:

«وأنت لم تهضم بعد ولم تستوعب ما يحصل أمام عينيك، تأتيك موريتانيّة أخرى مبتسمة، محتشمة، ترمى بطرف ملحفتها خلفها في حركة بارقة لتخفي نصف وجهها الوضّاء خلف حرير ملحفتها الموشاة، وتستأذنك وهي آمرة: هل لي أن ألتقط صورة معك يا أستاذ؟ أي، والله، فتقف – أيّها الأستاذ – كالطّفل الوديع وتنتظر التقاط الصّورة، ولا أحد من حولك ترى في عينيه مقدار ضيق عين الإبرة من الاستغراب، فالكلّ هنا في عفويّة تسبّب لك جلطة في رواسب الطّمي المتكلّس في ذاكرتك الثقافيّة.

تلتفتُ ناحية شمالك، فتنكسر عيناك في عينيْ أستاذٍ ليبيٍّ بجانبك، فيطرِّم شفتيه تعجّباً ويقول لك : “انحبس فهمي”. وتلتفتُ ناحية يمينك فيتماهى لحظك الأيمن مع لحظ رجلٍ جزائريّ يقول لك مندهشاً : “ما فهمتُ والو» …

ويكمل الأستاذ العبيدي تعليقا على مشاهدات ابن بطوطة:

«لقد قرأتُ فيما مضى، في كتاب “تحفة النظّار وعجائب الأمصار” لابن بطّوطة الطّنجي شيئا من هذا القبيل عن هذه البلاد، وقلتُ وقتئذٍ : إنّها مبالغات الرّحالة. لكنّني اليوم أشهد….»

تعطينا مشاهدات “العبيدي” عن المرأة الموريتانية وصدمة صديقيه التي وفق في تحليلها على ضوء صدمة عقليها المكوّنان في ثقافة متطرفة الأبوية من سلوك نساء لازلن يحتفظن ببعض فطرة الثقافة الأمومية الأولى……

لكن فطرة أسلافنا “البدائيين” لم تخل من مفاهيم سلبية اتجاه المرأة، فورثونا بعض عاداتهم في اختطاف النساء والزواج بهن رغما عنهن، وهو ما نجد بقاياه في عادة “أگيلوع” في أعراسنا، وهي نفس العادة التي تحدث عنها “ويل ديورانت” في تاريخ الحضارة نقلا عن وصف مؤرخ اليونان “بلوترخس” لنظام الزواج عند “الإسبارطيين” في القرن السادس قبل الميلاد: «كان ينتظر من العريس أن ينتزع عروسه من بيت أبيها قوة واقتدارا، كما كان ينتظر منها أن تقاوم هذا الانتزاع، وكان اللفظ الذي يعبر به عن الزواج هو لفظ “هرپدزين” ويعني الاغتصاب.

نظم أسلافنا الأمومية لم تحفظ في كتب ولم تكس بلبوس ديني، لكن العقل الجمعي للمجتمع حفظ منها ما يوائم نمط عيشه البدوي، وإن غلبت على العقل الجمعي مع الزمن النظم الاجتماعية الفارسية واليونانية والهندية التي وصلته مع ثقافة الحريم المدسوسة في كتب الدين، وفي العقود الأخيرة، في عهد الدولة وتجاذب التيارات والتنظيمات المؤدلجة، نعيش اندثار آخر موروثا الأمومي أمام غزو ثقافة نجد الوهابية وثقافة البحيرة البنائية وثقافة دلهي الإلياسية، فيما نراه -هذه الأيام- من دك لآخر حصون كرامة الزوجة الذي نسجه عقل المجتمع من موروثه الأمومي بشرط لا سابقة ولا لاحقة…

حرر عصر نهضة العقل بعض العقول الأوروبية من مسلمات وقواعد العقل المكوَّن على تأله الملك وربانية الكهنة، فانتقد ملك الكهنة الحق الحصري في التحدث باسم الإله، وانتقد حق الملوك الإلهي في ملك البشر، وحق أرباب الإقطاع في استعباد المزارعين في إقطاعاتهم، لكن حق رب الأسرة في ملك المرأة بقي على حاله وإن اهتز باهتزاز قدسية رعاته. لكنه هيأ لعصر الثورات الدينية أو عصر المراجعات…. وعصر الثورة الصناعية الأولى وعصر التنوير..

فأعطت المراجعات الدينية عقلا جمعيا بريطانيا يتقبل تقلد ماري الأولى للعرش، ومن بعدها الملكة اليزابيت الأولى مؤسسة عظمة بريطانيا التي تسيدت العالم لقرون، فظهر “بيكون” و”هوبس” و”لوك ”

و”نيوتن”، وكانت “كاترين” ومن بعدها “ماريا سليلتا آل ميديتشي” قد نقلتا إلى فرنسا قبسا من نور “فلورنسة” أيقونة النهضة، فسطع في سماء الأدب الفرنسي رائدات مثل “مادلين دسكوديري” مؤلفة رواية “ءارتامين” ، و”مادام دي لافاييت” مبدعة أولى الروايات السيكولوجية “الأرملة كليف”، وظهرت الصالونات الثقافية مع إنشاء “كاترين دي فيفيو” لصالون فندق رومبيبو، فكانت صالونات “مدام دوديفان ودموازيل دينسيناس”، و”مدام هلفشيوس”..، وهي الصالونات التي انبثق منها عصر الأنوار الفرنسي الذي غير بنية عقل العالم المكوَّن بتغيير المسلمات والقواعد التي بني عليها.

لم يهدم عصر التنوير أسس عقل الأمم الغابرة بين عشية وضحاها، بل إن من بين فلاسفته من تأثر بموروث مجتمعه المفاضل بين البشر لأصلهم وجنسهم، فنجد حامل مشعل التنوير “فولتير ينبري” للرد على قول “هلفشيوس”: أن البشر يولدون متساوون في ذكائهم، ولدى كل الناس عند مولدهم استعداد متساو للفهم والحكم، وأن ليس هناك تفوق فطري في الذهن لبشر عن الآخر، وإنما تحدث الفوارق من اختلاف البيئة والدرس والتعليم. ودعوته لإنهاء الطبقية وانهاء التمييز ضد النساء، وللمساواة بين الجنسين وبين كل الطبقات في فرص التعليم وأمام القانون.

ومثل “هلفشيوس” قال البارون “دي هولباخ” بالمساواة بين الجنسين، لكننا نجد الفيلسوف الثائر “ديدرو” متذبذبا في موقفه من المساواة الفطرية بين البشر، وإن كان لخص رأيه في التفريق بين الجنسين في قوله على لسان الطبيب في رواية “حلم دالمبير” : «الفرق الوحيد بين الرجل والمرأة أن لأحدهما كيس يتدلى في الخارج وللآخر كيس مثبت في الداخل».

ويكفي أن نشير إلى أن أولى كتابات روسو كانت مقال اشترك به في مسابقة أكاديمية ديجون للإجابة على سؤال: “ما الأصل في عدم المساواة بين البشر، وهل يقره قانون الطبيعة؟” لنعرف العقل السائد الذي كانت عقول فلاسفة التنوير تصارع للتحرر من مسلماته وتعمل على هد أسسه.

أعطت آلات الثورة الصناعية المرأة فرصة التحرر من التبعية المادية للرجل، فتشغيلها يعتمد على المهارة لا القوة البدنية، وأعطى التنوير آلات هد أسس العقل المكوَّن حول نقص المرأة الفطري، فأسست “اليزابيت مونتاجو” جمعية الجوارب الزرق الثقافية في بريطانيا، وألفت “ماري وولستونكرافت” “دفاعا عن حقوق المرأة” وحكمت تلميذة عصر الأنوار وراعية العقل “كاترين الثانية” روسيا، ونالت “ماري كوري” جائزتي نوبل، وخرج عاملات النسيج في تظاهرة “الخبز والورود” في الثامن من مارس، وكانت “حنة ارندت” و”سيمون ديبوفوار”، وغدت المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات ميثاقا أمميا وقانونا تلزم كل الدول بتطبيقه… ومازالت النساء في كل أصقاع العالم يناضلن لنيل حقهن في كل ما يجب من حقوق للإنسان…

وعندنا قد يعالج سن القوانين التي تلزمنا بها المواثيق الأممية بعض نتائج ثقافة سادت وتسود عقلنا الجمعي المكوَّن على دونية المرأة، لكنها في أغلبها ستبقى حبرا على ورق غير قابل للتطبيق في مجتمع ترجم ثقافة الحريم إلى لسانه الدارج وأصبحت جزءا من فولكلوره الشعبي، مجتمع تجذرت فيه ثقافة دونية المرأة وتسليعها وتشييئها إلى درجة أنك تسمع إحداهن تغني “سابگ ما بعناه نزدحو بيه” ولا تعني المترنمة بصليل أغلالها إلا بيع بضعها لمن سيملكها بما يدفع مهرا مقابل التمتع بها، وتسمع أخرى تغني “يالخادم هاه دنك تنگبظي” ولا تعني إلا الإشارة -بفرح- لمشروع استعبادها المنتظر، وحين نقول بلساننا الدارج “اعطاها رگبته” فلا نعني إلا أنه أعتقها، وحين نقول “اعطيه اشبر تطام اذراع” لا نعني إلا تكريس حرمانهن من أدنى حقوقهن البشرية…. ويكفي أن نعلم أنها غدت في موروثنا “تيبة” وأنه “ديلول”…

إن السبيل الوحيد لرفع الظلم عن نصف مجتمعنا، هو إعادة بناء عقلنا الجمعي، إعادة بناء أسسنا وقواعدنا التي نفكر من خلالها اتجاه المرأة، إعادة غربلة روافد ثقافتنا الموجهة لتفكيرنا، وتنقيتها مما تحمل من أفكار سلبية عن المرأة، والعودة إلى أسس الكتاب المحفوظ الذي يقول فيه جل وتعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ )23، (إِنّ أكْرمكم عند الله أتقاكم)24، (أنِّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى)25

الأسس التي جعلت من أم المؤمنين عائشة بن ابي بكر رضي الله عنهما مرجعا لكل راغب في التقفه في الدين، وجعلت من سكينة بينت الحسين كعبة العلماء والشعراء والأدباء، والتي يذهب الباحثون إلى أنها صاحبة أول صالون ثقافي عرفه التاريخ. ونعمد إلى تطهير ألسنتنا وفولكلورنا من الألفاظ الدارجة المكرسة لاستعباد النساء وتشييئهن، وإعادة إحياء قيم مجتمع أسالفنا التي أعطت الأميرة اخناثة منت بكار وعالمة المنطق خديجة بنت العاقل

أعلم أنه عمل شاق، ويحتاج تضافر عقول تأريخ وقانون وعلوم اجتماع وفقهاء مستنيرين، وأعلم أن طريقه ملغومة بالتفسيق والتسفيه والتكفير، لكن الأمل في أن تتبناه منظمات المجتمع المدني المهتمة بحقوق المرأة، فهو مشروع يحتاج متمرسين في العمل الجماعي، قادرين على جمع المستنيرين من كل مجال لتعميق النقاش ووضع الاستراتيجيات….

وأختم بذكر رد فعل أم المؤمنين عائشة رضي عنها لما سمعت بعضهم ينسب لخير البرية أن ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، قالت رضي الله عنها: شبهتمونا بالحمر والكلاب… والله لقد رأيت النبي ﷺ يصلي، وإني على السرير، بينه وبين القبلة مضطجعة. رضي الله عنها وأرضاها وصلى الله على العصوم خاتم النبيئين رسول الحكم العدل الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما.

مراجع الأحاديث والمقولات الموضوعة على لسان الرسول ﷺ وصحابته رضوان الله عليهم، ومراجع آيات القرآن الكريم:

1-القضاعي مسند الشهاب، السخاوي المقاصد الحسنة

 2-صحيح مسلم

 3-سنن الترمذي

 4-الشريف علي الرضى نهج البالغة

 5-البخاري

 6-مسلم

 7-مسلم

 8-مسلم

 10-البخاري

 11-الجعابي

 12-أبو داوود

 13-الشريف علي الرضى

 14- أبو داوود

 15-البخاري

 16-الترمذي

 17-مسلم

 18-البوصيري الإتحاف

 19-مسلم

 20-مسلم

 21-البخاري

 22-مسلم

 23-النجم

 24-الحجرات

 25-آل عمران