علي سيدي امزيزريك

خبير التخطيط الاستراتيجي و التنمية الدولية

يثير منذ أيام موضوع مسودة الاتفاق المحتمل توقيعه حول الهجرة بين موريتانيا و الاتحاد الأوروبي جدلا سياسيا، و ذعرا شعبيا، و قلقا للنظام هو مدعاة للشفقة و التأمل في آن واحد. ففي الوقت الذي تتسابق فيه دول أمريكا اللاتينية و المغاربية (كالمغرب و تونس وليبيا ) للفوز بهذه الورقة الرابحة نجد النخبة الموريتانية منكفئة و عاجزة عن توضيح و تأطير و تعميق النقاش حول هذه القضية المصيرية و الاستراتيجية و الحاسمة للشعب و الحكومة. و المضحك المبكي في

الأمر أن موقف الحكومة و دفاعها غير صلب أمام الآراء الشعبوية السطحية التي تملأ وسائط التواصل الاجتماعي و الإعلام المحلي.

على الذين يقفون في وجه هذه الاتفاقية أن يعلموا بأنهم يقفون بكل بساطة ضد نقل الكهرباء من العاصمة نواكشوط إلى 1400 كلمتر إلى أقصى مدينة النعمة، و أنهم كذلك يقفون ضد محطات تحويل الكهرباء و محطة للطاقة الشمسية في كيفه، و يحرمون

شعبا من الخروج من الظلمات إلى النور. إنهم بموقفهم هذا يقفون ضد رزق ساقه الله إلينا، و يحرموننا من فرصة ذهبية هيأها الوضع الدولي و الإقليمي الذي جعل من أفريقيا ساحة صراع بين الغرب و الصين وروسيا. إنهم ليسوا مجرد عدو للأمة الموريتانية في الداخل الموبوءة بنخبتها، بل هم أيضا فيروسا ت خارجية تستهدف مناعة جسم الوطن وكلما من شأنه أن يقوي دفاعاته أمام الفقر و البؤس مشتقاتهما. إنهم

يعملون على تحطيم دفاعات موريتانيا أمام الإرهاب و البطالة و الأمية و ضعف الخبرات، إنهم كصهر الناس (فلا هو يساعدهم ولا يترك غيره يفعل ذلك) إنهم العدو الحقيقي لهذا الشعب.

تأتي هذه الاتفاقية كهدية من السماء لشعب يعيش حاضرا مهتزا، و يسير نحو مستقبل مظلم، و تقوده نخبة شعبوية متخلفة وهامشية في صناعة التاريخ و تحقيق التنمية و امتلاك رؤية واضحة لمصير دولتها، ومع ذلك

تعتبر نفسها مركز الكون. إن هذا الموقف الرافض لهذه الاتفاقية هو نتيجة استثمارنا الطويل في الجهل المركب، و إلا فكيف لذي لب سليم و عقل حصيف أن لا يرى في هذا التعاون طوق نجاة للوطن من الأزمات و الأخطار التي تتربصه؟

إن الوضع الدولي و الإقليمي اللذان يرسمان سمات صراع على النفوذ بين الصين و الغرب في القارة السمراء، هو الموجه الأول و الرئيس للأوروبيين و الأمريكيين

على حد سواء، لمراجعة سياساتهم التنموية و الاقتصادية في القارة. حيث يشكل تنامي نفوذ الصين في إفريقيا قلقا كبيرا ، فقد ركزت الصين في العقدين الماضيين في استثماراتها على الجانب الإنمائي كالبنى التحية و التكنولوجيا الزراعية، الصحة و الغذاء عبر وجود أزيد من عشرة آلاف شركة صينية في القارة الأفريقية، وفقا لمعهد ماكينزي العالمي (ماكينزي 2017)، و في المقابل بدت غير فعالة بل محبطة سياسات

مؤسسات البريتن وود الغربية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي)، حيث كانت تركز على الإقراض و التجارة الدولية و المدفوعات بالإضافة إلى ما اعتبره القادة الأفارقة ابتزازا لحكوماتهم و إثقالا لكاهل دولهم بالديون. و قد أصبح لا مهرب للغرب من مراجعة سياساته اتجاه أفريقيا، وهذا ما تمت ترجمته حاليا من خلال مجموعة الدول السبعة (G7), و الولايات المتحدة الامريكية بالاضافة للاتحاد الأوروبي. تهدف

إلى خلق شراكة متكافئة مع افريقيا و تدعم إعادة هيكلة المؤسسات الدولية الكبرى – كالأمم المتحدة ، صندوق النقد الدولي و البنك الدولي – من أجل إشراك العالم الثالث.

عبر هذا الثلاثي أعد الغرب خطتة الإنمائية لمواجهة تمدد الصين في القارة, حيث سيواجهها و روسيا عبر النظام المتعدد الأطراف و مقاربات إنمائية تم التأطير لها عبر خطة البوابة العالمية The Global Gateway 2021,.

حيث تمثل هذه الخطة عصارة عصف الذهن الجيوستراتيجي الغربي وقد تم رصد ميزانية 150 بليون يورو للاستثمار حصرا في إفريقيا. و ما للشراكة الموريتانية الأوروبية المتوقعة إلا من تمثلات هذه الخطة. و من هنا ومع محض الصدفة و الحظ التقت مصالح الدولة الموريتانية و التي هي بحاجة لشريك ضخم و استراتيجي كالاتحاد الاوروبي مع هذا الأخير الباحث عن دولة برمائية كالمغرب أو موريتانيا

يمكن من خلالهما تنفيذ سياساته ضد الصين و روسيا.

لماذا موريتانيا خيارا للاتحاد الأوروبي وليس المغرب ؟

فعلى الرغم من توفر المغرب على المؤهلات ليكون ساحة المشروع الأوروبي الطموح في القارة الافريقية إلا أن ثلاثة عوامل رئيسة حالت دون ذلك ليتم المغرب كخيار أول. فالعامل الأول هو العلاقات المغربية الصينية القوية و التي تعززت أكثر في السنوات الأخيرة من خلال التبادل

التجاري حيث بلغ التبادل الصيني المغربي 7.6 مليار دولار في سنة 2022, و أما العامل الثاني و الأهم هو أن الصين ستتحكم في التجارة الدولية في إفريقيا عبر السيطرة على ميناء طنجة و الذي تمت توسعته توسعته من طرف مجموعة الشركات الصينية, ليكون أول ميناء من حيث طاقة الاستيعاب في البحر الابيض المتوسط , إذ يتألف من محطتين للحاويات تبلغ بقدرة استيعابية اضافية تبلغ 6 ملايين حاوية. و

يربط المملكة المغربية ب 77 دولة و 186 ميناء. و أخيرا موضوع المهاجرين والذي أصبح ورقة ضغط بيد المغرب تبتز به اسبانيا (دولة عضو في الاتحاد الأوروبي), و قد اعتبرت اسبانيا أن السماح بتدفق آلاف المهاجرين على جيب سبتة من طرف المغرب ابتزازا وعدوانا على الحدود الاسبانية و حدود الاتحاد الاوروبي و أنه خرق للقانون الدولي.

لقد أتيحت لحكومة موريتانيا و لأول مرة فرصة ذهبية إن استغلها

الوفد الحكومي المفاوض أحسن استغلال و فاوض من موقف ملأ الارادة (Negotiations to impose the well) وليس من موقف المفاوض للوصول لتسوية (Negotiations to achieve the compromise). فإنه سيحقق مكاسب ستجعل من موريتانيا يحسب لها الف حساب في المنطقة. موريتانيا تحتاج حليفا دوليا و استراتيجيا كالاتحاد الأوروبي لتخرج من مستقعها الفقري و البؤسي إلى

الرفاه, تحتاج الاتحاد الأوروبي كحليف و شريك يؤطر كادرها , و يستثمر في بنيتها التحتية , و يربط حضرها بريفها و ينقل الكهرباء من نواكشوط إلى حيث مناطقنا الداخلية التي تعيش خارج التاريخ و الجغرافيا.

 و لقد اطلعت مع أطر دولية موريتانية على مسودة التعاون الموريتاني الأوروبي المبرمج توقيعها بتاريخ 7 مارس 2024, وقد بدت في جلها إن لم تكن كلها في الصالح العام الموريتاني. و إن

قدر لها أن ترى النور و سيرت تسييرا حسنا ستقفز بموريتانيا قفزة تنموية لم نكن نحلم بها في المستقبل القريب. حيث سيضمن الاتفاق لموريتانيا التحول الأخضر (Green transition) إذ سيعمل الفريق الأوروبي على تطوير وإنتاج الهيدروجين في موريتانيا للاستعمال المحلي و التصدير، و ستستفيد موريتانيا حكومة و شعبا من إنشاء طريق سريع بين العاصمة نواكشوط و العاصمة الاقتصادية نواذيب و بمعايير

إشراف أوروبيين.، بالإضافة إلى خط لنقل الكهرباء 1400 كلم من نواكشوط إلى الأقصى الموريتاني مدينة النعمة ، هذا زيادة على محطات تحويل و محطة للطاقة الشمسية في كيفه. ناهيك عن التحول الرقمي من خلال كابل بحري لمضاعفة قوة الانترنت و إنشاء قاعدة تحليل البيانات في نواكشوط من أجل رقمنة السيادة الوطنية و دعم الأمن و مبادلات البيانات. حماية و تطوير الثروة البحرية و دعم الصيد عبر بناء

البنى التحتية العصرية و الملائمة. من خلال هذا الاتفاق سنستطيع تدعيم أمننا الاقليمي نعم الأمن من خلال دعم الجيش عبر تكوين الكادر وتأطيره ، زيادة للمعدات العسكرية للتصدي للإرهاب وحماية الحدود مع مالي.

إن نقطة المهاجرين التي أثارت غضب وأذكت جذوة النقاش في البلد لا تتحدث البتة عن توطين لمهاجرين أو إعادتهم من أوروبا لموريتانيا، و أي عقل يفكر بهذا الأسلوب لهو معطوب. إن القانون

الدولي لا يسمح بذلك و سيادة الدولة الموريتانية تتنافى وذلك و دستور الجمهورية لا توجد به فقرة واحدة يمكن استنطاقها أو تفتح ظفرين لهكذا اجراء. فمن أين جاء هذا التفسير ؟ فإن لم تكن هذه الاستخلاصات ضد الوطن و المواطن فماهي إذن؟

إن الهجرة والمهاجرين هي ورقة (البوكر) و هي كذلك واقع موريتاني وطني لا يمكن تجاهله وعدم التعامل معه، لأنها واقعنا الإقليمي وامتداداتنا الثقافية و

الدينية و الاجتماعية. وليس في الأمر كله سوى أن هذه الورقة المربحة جدا ستصبح بأيدينا بعد أن كنا محرومين مما تدره من أموال رغم أننا نتأثر بها بل كنا معبرا للمهاجرين و مسيرا لاجراءاتهم دون أي مقابل.

لقد كانت ورقة الهجرة بيد كل محيطنا الاقليمي المغاربي -كتونس و المغرب و ليبيا و امتدادنا الديني كتركيا)، وقد اصبحت ورقة اليانصيب الموريتاني و التي سنجني منها كما

كانت تفعل كل دول الجوار. ولذلك من المنطقي جدا أن يحاول بعض عملاء تلك الدول أن يشوش على الرأي العام الوطني و يغالطه. إن منح موريتانيا الثقة في تسيير إجراءات المهاجرين مقابل مبلغ 210 مليون يورو سوف يخلق وظائف محلية لا تحصى و يكسب سيستمنا القضائي خبرة و يحرك نظام الخدمات لدينا من تعليم و تأمين. تماما كما كان يستفيد المغرب و ليبيا و مصر و تركيا و غيرها.

إن شبح الهجرة هو السلاح الوحيد الذي منحه الله لدول العالم الثالث للضغط من خلاله على الغرب و ابتزازه. إننا كنخبة وطنية علينا أن نقف خلف الاتفاقية و ندعمها بغض النظر عن انتماءاتنا السياسية و حساسياتنا الإثنية و مشاربنا الأيدولوجية. وليكن دعمنا للاتفاقية عبر المساهمة في رفع سقف التفاوض و توسيع الاطار المرجعي له.. فعلى الوفد الموريتاني أن يضع في مقترحه فتح مسالخ عصرية و بمعايير

أوروبية لفتح السوق الاوروبي أمام إنتاجنا من اللحوم و الالبان و مستخرجاته,أو عليهم أن يقترحوا مركزا لخدمات الاتصال يتكون فيه الشباب على الخدمات الدولية و يؤهلهم للسوق العالمية بل وأكثر.

في النهاية نحن دولة موقعة على الاتفاقيات الدولية و الاقليمية لحماية اللاجئين (جنيف 1951 و البروتكلين المكملين لها , واتفاقية الاتحاد الافريقي) و نحن ملزمون باحترام تعهداتنا تجاه المجتمع الدولي بما يتعلق باللاجئين ، و

نحن بالفعل نفعل ذلك منذ زمن طويل, حيث نحتضن مخيم اللاجئين في مخيمات امبرة( حدود سبعين الف لاجئ), بالإضافة 12 الف لاجئ في المناطق الحضرية تسيرهم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

و على هذا الاتفاق أن يكون فرصة أمام الحكومة الموريتانية لتبدأ تأميم الوظائف الصغيرة و المتوسطة في كل المؤسسات الدولية العاملة في البلد, ولا أن

تترك غير الوظائف السامية و التنفيذية كالمالية و الإدارة, لأنه في النهاية دور الموظفين الدوليين هو نقل الخبرات للعمالة المحلية و ليس الاتيان بالموظفين الجدد الذي يتقاضون مرتبات عالية جدا تفوق مرتبات الوزراء مع امتيازات لا حدود لها.

لقد حان الوقت لنا كدولة أن نقرر ما إذا كنا سنبقى هامشيين متسكعين على رصيف العالم أو نوقع هذه الاتفاقية لتكون طوق النجاة لنا و إلا فإننا أمة مقضي

عليها لا محالة.

المصـــــادر:

1. البوابة العالمية للاتحاد الاوروبي : إانشاء روابط و ليس تبعيات(2021). https://www.eeas.europa.eu/eeas/

2. U.S.-Africa Leaders Summit 2023./ https://www.state.gov/africasummit

3. هل تتمكن الصين من رأب الصدع بين المغرب و الجزائر: https://www.aljazeera.net/midan/reality/economy/2021/4/22/

4. الشراكة الموريتانية الاوروبية 2024 EU-Mauritania Partnership: EU-Mauritania_factsheet.pdf.pdf

5. The Group of Seven (G7) is an intergovernmental political

and economic forum consisting of Canada, France, Germany, Italy, Japan, the United Kingdom and the United States;

6. Christina Lu 2023. The move comes straight out of China’s Belt-and-Road playbook/Lobito Corridor: The U.S.-China Critical Minerals Race in Africa Is Heating Up

(foreignpolicy.com):