توقفتُ عن كتابة هذه الزاوية قبل مدة ولم أعد أذكر خط التحرير الذي انتهجته وقتها.. هذا أيضا من باب الوضوح!
حاولتُ البحث عن مقالات سابقة كتبتها هنا لأتذكّر كيف كنت أكتب؛ مع علمي بصعوبة البحث عن محتويات تقدمي على الإنترنت لأسباب فنية وسياسية، وأسباب أخرى لا يعلمها إلا الله..وحنفي؛ لكنني أقلعت عن هذا الفعل.. يا للالتزام! منذ متى وأنا على هذه الشاكلة؟ أتقيد بخطّ ونسق واحد!
حسنًا.. ليكن هنا ما شاء الربّ أن يكون، إن رأيتُ أن الأدب حسنًا فهو حسن، وإن رأيت أن الحب وأهله أحقّ بالكتابة عنهما فهو كذلك، أما السياسة فهي القبيحة في عين الرب التي لا أقارفها في هذا المكان الطاهر الذي سيبقى (طول عمرو طاهر).
سأعود إلى الكتابة دون بحث عن أسباب أو خطوط أسترشد بها، فما ميّز تجربة تقدمي أنها لم تسأل يومًا عما يجب فعله، رغم ما يوحي به لونها الأحمر من صرامة.
فالكتابة فعل تاريخي، وهي وجيهة دون أسباب، وتغدو أقل وجاهة بوجودها، وإن شخصا مثلي لم يعتد وطنا –أو لم يأوه وطن بالأحرى– جديرٌ أن يألف كل من يعطيه بادرة انتباه، أو على مقولة الإخوة في الخليج (كل من يعطيه وجه) لهذا ألِفْتُ أفعال الكتابة والفذلكة والحذلقة.
مقولة لافتة لثيودور أدورنو تؤطّر كل هذا بالنسبة إلي؛ لكنه هو نفسه من يؤكّد المقولة، رجلٌ تشظى بين النمسا وألمانيا والولايات المتحدة، من أم كاثولوكية وأب يهودي تحول إلى البروتستانتية، خرج تيودور عالم نفس وفيلسوفا تنقّل بين الفاشية و“مدرسة فرانكفورت“ الفلسفية، ليصيح أخيرا بمقولته المؤلمة: “بالنسبة للإنسان الذي لم يعد لديه وطن، تصبح الكتابة مكاناً ليعيش فيه“!
المثالية الطافحة هنا لا تنطبق علي، فلدي مكان مادي أعيش فيه، لكنني أجد الكتابة “فعلا” أعيش فيه، وحين يختلط فعل “أعيش” بشيء يصيب معناه تغير طفيف!
وهروبا من الالتباس، أفضل فعل “أعيش” مرسلا دون تقييد، فأنْتعيش الثورة أفضل من الكتابة عنها كما يقول لينين، أما صديقكم هذا الذي يكتب فهو يقول أن تعيش الحياة خير من أن تكتب عنها.
ولتوضيح أثر الفراشة “أعيش” على مباني اللغة أقول: ” كنت أعيش” تفيد أنك لم تعد تعشْ، و”صرت أعيش” تفيد أنك لم تكن.
أما “أنْ“ المصدرية في مقولة لينين -حقيقة لست متأكدا من وجود أنْ مصدرية في اللغة الروسية- تفترض معنى براغماتيا غير مؤكّد على عكس ما يريد لينين –فيما يبدو- وهو أنك حين تكتب عن الثورة ستنشغل عن “عيشها”!
على أنّ الفصل بين كلّ هذه المعاني المتداخلة لكلمة “العيش” يمكن أن يحال فض التباسها إلى أستاذنا حنفي فهو من أهله.
بالعودة إلى كلمة لينين فالأمر بسيط كما نرى، تقليد العباقرة أبسط مما نظن، يمكن أن نكتب مثلا: أن تنتخب حاكمًا عسكريا أفضل من ألا تنتخب أحدا.. وهكذا دواليك.. رغم أنني –أيضا– لا أعرف معنى دواليك! لكن أنْ تكتبها أفضل من ألا تفعل.
ختاما؛ بذكر العودة والعيش، في ثقافة الماليالام في إقليم كيرالابالهند، يجب أن يقدّم الرجل ستة أمتار من حرير الساري لحبيبته كلما عاد من سفر طويل، نوع من الترضية كما تذكر أرونداتي روي في رواية “إله الأشياء الصغيرة”، وفي ثقافتنا المحلّية هناك ما يسمى “آمسكري” وهو ترضية من نوع آخر.
في حالتي مع تقدّمي لا أدري أي منّا عليه أن يهيأ تَقْدِمَةً للآخر، من جهة غبتُ عنها طويلا دون عذر وجيه، ومن جهة أخرى لم أنعمْ بخيانتها كما يحدث عادة في النموذج المحلّي قبل تقديم “آمسكري”.
حسنًا؛ قد لا يكون هذا المقال مما يصلح أن “يرجع المرأة لخيمتها”.. لكنه تقدمة على كل حال.