بفوزٍ ناصع بلغت نسبته 76.18% من إجمالي الأصوات، انتُخب الخبير الاقتصادي الموريتاني سيدي ولد التاه رئيسًا لمجموعة البنك الإفريقي للتنمية، في لحظةٍ تُعدّ فارقة ليس فقط في مسيرته الشخصية، بل في تاريخ موريتانيا الدبلوماسي والاقتصادي. فبعد ثلاث جولات من التصويت المكثف داخل الجمعية العامة لمجلس المحافظين، تفوّق ولد التاه على أربعة منافسين من دول ذات ثقل إفريقي، ليصبح الرئيس التاسع لهذه المؤسسة التي تُعدّ العصب المالي للتنمية في القارة السمراء.
لكن ما وراء هذا الفوز؟ وما رمزيته لموريتانيا؟ وما المنتظر من هذه اللحظة القادمة.؟
سيدي ولد التاه خاض مسيرته المهنية بين الحقائب الوزارية في نواكشوط، حيث تولّى وزارة الشؤون الاقتصادية والتنمية، ثم انتقل إلى إدارة البنك العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا (BADEA) منذ 2015، وهناك أرسى استراتيجية ربط ناعم بين تمويلات العالم العربي واحتياجات القارة الإفريقية، بما جعله محاوراً موثوقاً لدى عدة حكومات ومؤسسات دولية.
جاء ترشحه لرئاسة البنك الإفريقي للتنمية ليجمع حوله دعمًا غير مسبوق من الكتلة الفرنكوفونية، وتحالفات عربية وإفريقية ساعدت في خلق كتلة انتخابية صلبة وفعّالة.
ينفرد البنك الإفريقي للتنمية بنظام انتخابي صارم يُعرف بـ”الأغلبية المزدوجة”، حيث يُشترط أن يحصل المرشح على أكثر من 50.01% من إجمالي أصوات الدول الأعضاء، وأكثر من 50.01% من أصوات الدول الإفريقية وحدها. وقد تجاوز ولد التاه هذا السقف بكثير، محققًا 76.18% من الأصوات، في ما يُعتبر تفويضًا سياسيًا ومؤسسيًا قويًا.
هذا الرقم لا يعبّر فقط عن توافق انتخابي، بل عن رهان قاري على مقاربة مختلفة في قيادة التمويل التنموي، أكثر توازنًا بين الاستدامة، الشمول، والشراكات العابرة للأقاليم.
ربما للمرة الأولى منذ تأسيس البنك في ستينيات القرن الماضي، تضع موريتانيا أحد أبنائها في قمة هرم إحدى أضخم مؤسسات القارة. لم يكن هذا مجرد انتصار لشخص، بل إعلانٌ رمزي عن خروج نواكشوط من دائرة “المراقب” إلى موقع “المشارك في الصياغة”.
وهو ما يُعيد ترتيب موقع موريتانيا في الخارطة الإفريقية الجديدة، ويفتح أمامها أفقًا للمشاركة الفاعلة في هندسة السياسات التمويلية الإقليمية، وتوجيه التدفقات الاستثمارية نحو غرب القارة، بل وإعادة تعريف أولويات التنمية في مناطق الساحل والصحراء.
تسلُّم ولد التاه لمنصبه رسميًا في سبتمبر المقبل يفتح بابًا واسعًا لتطلعات كبرى:
1. إعادة التوازن الجغرافي داخل البنك: عبر منح مزيد من الاهتمام للدول الأقل اندماجًا في شبكة التمويل القاري.
2. تعزيز التكامل العربي-الإفريقي: مستفيدًا من تجربته في BADEA لنسج شراكات ثلاثية بين الخليج، شمال إفريقيا، وباقي القارة.
3. إصلاح السياسات التمويلية: نحو نهج أكثر شمولًا وعدالة، خصوصًا في القطاعات الهشة كالماء والتعليم والزراعة المستدامة.
4. الاستجابة للتحولات المناخية: عبر تمويل مشاريع صديقة للبيئة وقادرة على التكيّف مع موجات التصحر والتغير المناخي.
لا يُمكن لهذا الفوز أن يُقرأ خارج سياقه الإفريقي الجديد، حيث تتغيّر ملامح القيادة، ويصعد جيل من التكنوقراط القادمين من “هوامش التأثير” ليقودوا مؤسسات المركز. ولد التاه يمثّل هذا التحوّل بعقلانيته، لغته المحايدة، وسيرته المليئة بالصبر والتراكم الهادئ.
لقد كسب الرجل ثقة القارة، والكرة الآن في ملعبه: إما أن يُعيد البنك إلى وظيفته التأسيسية كقاطرة للعدالة التنموية، أو يُضيّع فرصة ثمينة جاءت في وقت حرج من تاريخ إفريقيا.