كانت الخيمة تضرب أطنابها في صحراء شاسعة، و كانت النجوم المبعثرة في السماء المعتمة كطلائع جيش تتلع بأعناقها و كأنها تسرق السمع لما يتسرب من حديث خافت داخل الخيمة تحجبه أكلّتها الضافية. كانت ألوان الحصير الذي نمّقته كفٌ صَناعٌ تغازل أضواء القناديل التي تسكب دموعها البيضاء في زوايا الخيمة و كأنها ترثي للقلبين المتنافرين، بعد عُمر من الصفاء و التآخي.
جلس ولد الغزواني و ولد عبد العزيز على حشيتين متقابلتين، يفصل بينهما خوان خشب مزخرف بالنحاس و القصدير، و كان ولد عبد العزيز ساهم الملامح، يرمق شزرا شيئاً ما كسر الخيمة، و ينزع من شفته السفلى رؤوس بشرتها الجافة بأطراف أسنانه، و قد كاد وجهه يتميز من الغيط، أما ولد الغزواني فقد تربع في جلسة وقور، و وضع مخدة جلد ذات أهداب تحت فخذه الأيسر، ثم شبك سواعده، و أطرق نصف إطراقة بعد أن أصلح وضعية نظاراته الطبية فوق أرنبة أنفه.
دخل الشيخ ولد بايه، و قد ارتدى دراعة “فنيّار” سماوية اللون، لا شعارَ تحتها، و تسربل سروالاً رياضيا، و حمل في يده صينية كبيرة تحتوي ثلاثة أقداح، و قعْواً يتدفق منه صريح اللبن الراغي، و بعد أن وضعه على الخوان، التفت إلى ولد عبد العزيز الذي زمّ شفتيه، و أشاح بوجهه قليلا، فخاطبه ممازحا:
– لاهِ نعشيكم الليله بعيش بشْنَ الصالح، الميدوم بلبن لبگر، يكانكم يبردُو روصكم، و تعودُ تگدّو تشدُ لخبارْ.
افترّ ولد الغزواني عن ابتسامة شاحبة، و قال:
– صديقك هو من يحتاج لأن يواصل ثلاث مأموريات من “اتجوريف العيش” حتى تهدأ أعصابه، و يفهم أن الأيام دولٌ، و أن “الدول” لا ترضخ لرغبات الأشخاص.
اكفهر وجه ولد عبد العزيز، و كشط بمقدم أسنانه بشرة شفته السفلى الجافة فأدماها.. أما ولد بايه فقهقه كعربيد مستهتر، و قال، محاولاً التندر للتخفيف من كآبة الأجواء:
– لو كنت سيدي الرئيس “مستگبلاً” لأيقتت أنك تلمح في قولك “اتجوريف” لما فعله صاحبنا بالمال العام خلال عشريته “الغظفه”، التي “امتلأت فيها و امتلأت موريتانيا” و أصبحت أنت رئيساً.
فشلت البشاشة، كلاعب كرة قدم متسلل يباغته الدفاع، في اقتحام وجه ولد عبد العزيز العبوس، فتلاشت سريعا كحُباب الماء، فقال و قد انتفخت أوداجه، و طفق رأسه يهتز بهيستيريا:
– رغم أنني جعلت منك ثرّياً و منه رئيساً، فقد تنكرتما لبيض صنائعي، و قابلتما إحساني بالإساءة.. أنت استوليت على كثير من أموالي، و هو استكثر عليّ “مرجعية” حزب من المنافقين و الانتهازيين، الذين يدورون مع الزجاجة حيث دارت.. قطيعٌ عجماوات لا يفكرون في غير بطونهم.
قال ولد بايه و قد جلس جانب الخوان، و أعاد إلى ساعده في حركة سريعة ساعة الرولكس المضببة التي تدلت على رسغه:
– شوف يصويحبي.. لا أفهم المغزى من “المرجعية” التي تتحدثون عنها في UPR ففي اعتقادي أنها عبارة تُعني بها الأحزاب الإيديولوجية التي تعتنق عقيدة سياسية، تُستقى من رؤى و أطروحات مفكر ما، حلب ضرع الفكر أفاويقَ، و أعلّ من معينه بعد نهل.. أمثال لينين و ماركس و ميشيل عفلق و نحوهما. أما أنت صديقي العزيز فقل لي ماهو هذا الفكر الذي تصلح لأن تكون مرجعيته.
قهقه غزواني عالياً، و خاطب ولد بايه ممازحاً:
– لن أقبل منك أبدا الاستهانة بفكر صديقي.. هذا الحزب لا يضم غير مرتزقة تبحث عن علف لبطونها، و هو أستاذ و مرجعية فيما يبحثون عنه.. يمكنه أن يكون خرّيتهم في مهامه النفعية و الارتزاق و جني المال الحرام.
عزيز (غاضباً و قد حملَق في وجه ولد الغزواني):
– لهذا نافستني في هذه “المرجعية”، لأن موهبتك فيما يبحثون عنه أفضل من موهبتي فيه. إذا كانوا تجمعاً للإرتزاقيين، و لاهدف لهم من السياسة غير الانتفاع، فلماذا تحرص على أن تكون مرجعيتهم “الحصرية”.. و تحرك الخليل ولد الطيب و احبيب ولد اجاه لإقصائي من الحرب.
غزواني: شوف عزيز، أهل التويميرت متعارفينْ.. كيف تقول إنني خالفت الدستور باعتباري مرجعية للحزب.. ألم تخالف أنت الدستور في تاريخك الانقلابي، و في استفتاءك على التعديلات الدستورية بعد رفض الشيوخ لها، و في تعطيل محكمة العدل السامية، و في إشكالية تجديد ثلثي مجلس الشيوخ المعروفة.. و هذا غيض من فيض تلاعبك بالدستور.. ثم إذا كان انتساب “رئيس الجمهورية” لحزب سياسي مخالفة دستورية، فمتى انتسبت أنت للاتحاد من أجل الجمهورية؟!. فهل انتسبت له رئيساً فانتهكت الدستور، أم أنك مررت على مقره، و أنت في طريقك للمطار للسفر إلى تركيا، فجرَ اليوم الموالي لتنصيبي، فاستصحبت معك بطاقة انتسابك؟.. إلعب غيرها عزيز، و تذكر من تناطح، فأنت الجماءُ الآن و أنا القرناء، و الدهر قُلّب.. عدْ إلى صوابك، و لا يغرّنك بالدولة الغَرور.!
انتفض ولد عبد العزيز انتفاضة قطٍ أريق عليه دلو ماء، و اتجه لمغادرة المجلس، فتعلق ولد بايه بطرف ثوبه.
عزيز (مخاطبا غزواني): هكذا أصبحت تخاطبني يلمْرابطْ.. لقد ارتقيت مُرتقىً صعباً.. يمكنك ذمي و ثلبي بعد أن ركبت الأهوال و تجشمت الأخطار لأطيح بولد الطائع، و لأجبر اعل ولد محمد فال على التخلي عن “بطاقته البيضاء”، و أنقلب على سيدي ولد الشيخ الذي أقالنا من منصبينا، و همّ بالتنكيل بنا.. هل تتذكر؟!
ولد بايه، و قد أجبر عزيز على العودة للمجلس:
– الگومْ، الاّ بالشورْ.!
غزواني مخاطبا عزيز، و قد امعّر وجهه غضباً:
– ما أتذكره يا محمد عليون هو أنك كنت أخاً و صديقاً، تقاسمنا كسرة الخبز و شربة الماء، و هصرنا غصن الحياة رطباً و يابساً، و درجنا مدارج الجد و الهزل، و كنت أول من عرض عليك الانقلاب على ولد الطائع، فقدمت رجلا و أخرت أخرى قبل أن توافق مذعوراً، و حين انقلبت على ولد الشيخ عبد الله دفعك انعدام ثقتك في نفسك لأن تقترح عليّ تولي منصب “الرئيس” على أن تكون أنت قائد أركان الجيوش، فرفضت لأن طبعك الحَزنَ لن يوافق قادة الجيش و ضباطه.. و يوم كنت طريح أسرة مستشفى بيرسي بضاحية كالامار بباريس، يخاتلك شبح الموت، كتمت سر رصاصة اطويّله، و حميت حكمك من الضباط الشباب الذين همّوا بالانقضاض عليه، و ناورت المعارضة في دعواهم “شغور منصب رئيس الجمهورية”، حتى عدت لكرسيك الهزاز، لم يكدر لك صفو و لا نُغّص عيش.. نحن شريكان في مسيرة طويلة من الانقلابات و ممارسة الحكم، و قد اقتسمنا خطتينا: عشر سنوات خالصة لك، لا أتدخل فيها و لو بإيماءة، و عشرا خالصة لي.. من ناحيتي التزمت بتعهداتي.. فللعهد فعلا عندي معنىً، فلم أتدخل في كل حماقاتك التي تُشيب الغرابيب. أما أنت فلم تصدّق أنني تربعت على عرشك، حتى بدوت كمن أخذته حمى بنافضٍ، أو أصابه “جنون بقر”.. اتئدْ، فإنك لن تخرق الأرض، و هذه الدولة لم يورثك إياها أسلافك الشيشاويون، ثم أن حلمي عليك و تجاوزي لزلاتك لم يكن عن ضعف و لا خوَر و إنما لم أشأ أن يغلب الجفاء الصفاء، و لا أن ينسيني آخرُ علاقتنا أولَّها.. و لكن أرجوك صديقي لا تجرب صبري!
عزيز، و قد غارت عيناه و خارت قواه، و ظهرت عليه مخايل الضراعة و الاستكانة:
– متى صبرت عليّ؟!.. كلمتان قلتهما للجنة تسيير الحزب، عن “المرجعية”، حاولت من خلالها إثبات وجودي، و الظهور بمظهر ما لا يزال يحتفظ بأهميته، كررت عليّ بخيلك و رجلك، و أغريت بي سفهاء أنصارك، لتتركني كالأمس الدابر، يتقيني من كانوا يتسابقون للعق حذائي كما يتقى البعير الأجرب.. تأكد أن يوما سيأتي عليك يتنكر لك فيه أقرب الناس إليك.. سيسقيك غيري من خرطوم الكأس التي سقيتني بها.
غزواني، (و قد بدا حازماً، و هو يمد سبابته في وجه ولد عبد العزيز):
– نعم صبرت عليك كثيراً.. تفرجت عليك ترتكب الفظائع في حق وطني، و كان بإمكاني الإطاحة بحكمك في رفة جفن فلم أفعل.. صبرت على تعقبك لي و إغراءك لاحميده ولد اباه بالتنصت على مكالماتي الهاتفية.. و صبرت على تسريبك لها.. و كم نما إلى سمعي ثلبك لي في مجالسك الخاصة فكنت أعفّ عن عورائك و أغض الطرف على قذاك، و أقول: سامحه الله، فلسانه غلّاب.. لقد بقيت رغم كل محاولاتك التدخل في صلاحياتي أفتل منك في الذروة و الغارب كي تقبل أنها لو دامت لغيرك لما وصلت إليك، فلا أجد منك إلا نفوراً.
انكمش ولد عبد العزيز كابن آوى يحاط به من كل ناحية، و مرّر يده على رأسه، و قال:
– أنتَ عايدْ لامْ فيك ذ كاملْ ماني عالمْ؟!
عزواني (وقد هدأت سورة غضبه):
– رغم كل ما اكتشفته من نهبك المبالغ فيه لخيرات البلاد، حتى كأنك تنين أسطوري يلتهم يابس الطّحماء، فقد أبقيت على أكثر وزراءك نهباً و غلولاً، و عينت ناجذتك التي تلوك بها المال العام مديرا لاسنيم، و صبرت على من اختزلوني في شخصك و اعتبروني مجرد امتداد لحكمك.. و حين رفضت حضور الاحتفالات المخلدة لعيد الاستقلال اتصلت بك محاولا ثنيك عن قرارك الصبياني هذا، فلم ترد على اتصالاتي، فلجأت للاتصال بتكيبر و أسماء.. الصغيرة الغريرة أسماء قالت لي: أنت تعرف بابا، حين يشيح بوجهه عن الأمر، لن تعيده إليه القيامة و لو قامت.. ينبغي أن تعرف انت و تعرف أسماء أن “بابا” أصبح أذل من فقعٍ بقاع.. كان بإمكانه أن يظل رئيساً سابقاً صديقاً للرئيس الحالي.. و لكن هيهات.!.. الصيفَ ضيعتِ اللبن.!
تقدم الشيخ ولد بايه إلى خوانه، فأمسك بيده عصيدة عيش بلون هضاب الزويرات ثم أغرقها في قدح حليب، و قدمها لولد عبد العزيز، قائلاً:
– لو تناولتم “عيشكم” أولاً، لما كان كل هذا التشنج و التوتر.. احكمْ انتَ تعشّ
غير أن ولد عبد العزيز دفع القدح بيده حتى كاد يريقه، لولا أن ولد بايه أسرع بتفاديه. و قال:
– ما عيني فعيشك.. انت زاد أنت الّا كيفو ما يگر فيك الخير.. و طرنيشتي امللي ماهِ لاهِ تبرد فجوفك.. اسمعت؟!
و هب ولد عبد العزيز مغادراً، و قد علته عُرَواء، و اتسعت حدقتا عينيه.. و هو يكرر “ادّورُ تشوفُ ذاكْ”.. عندها التفت ولد الغزواني إلى ولد بايه ضاحكاً و قال:
– إيدمْ لي آنَ بعد عيشي.. و اتركه يكون رئيساً لجمهورية السالكة بنت سيد أحمد.
قهقه ولد بايه، و قال:
– اخلعنّ صويحبي جَنْ.
أما ولد الغزواني فما أن أخترقت براجم أنامله رغوة الحليب حتى قال له شيء في صدره “ظاهر الأرض لم يعد يسعكما معاً”.