تعود بداية تاريخه السياسي إلى فجر الاستقلال الوطني، إذ كان حينها أحد الشباب الطلاب الخمسة في فرنسا الذين تم استدعائهم لتأسيس حب الشعب الموريتاني، أول حزب في البلد هيمن على الحيلة السياسية لفترة طويلة، في هذا الجزء من شهادته على تلك المرحلة تحدث عن مرحلة التأسيس وما رافقها من إشكالات ذات علاقة بمسالة اللغة وبالخيارات السياسية والاقتصادية وبعلاقة موريتانيا بمحيطها الأفريقي.. إنه السياسي والمناضل الأمين العام لحب التحالف الشعبي التقدمي لادجيتراوري.
سابدأ من سنة 1959 بوصفها عشية الاستقلال الوطني لدول غرب أفريقيا من المستعمر الفرنسي، وكما تعلمون هناك يسمى ب”إصلاح “1957، والذي أعطى نوعا من الحكم الذاتي للمستعمرات الفرنسية في حينها من أجل إدارة شؤونها المحلية، ولكن كان هناك المناخ الدولي أيضا الذي طبعته حروب التحرير في القارة كلها وفي الجزائر بصفة خاصة.
عام 1959 كنت حينها طالبا في فرنسا وكنت عضوا فيما أطلق عليه “اتحادية الطلاب السود في فرنسا” والتي كان عضوا فيها معي ألفا كوندي الرئيس الغيني الحالي قبل أن يصبح رئيسا لها بعد خلافات وانقسامات عديدة.
لقد كافحنا يومها من أجل استقلال الجزائر ودعمنا هذا الاستقلال وأيدنا، وذلك من خلال إطار سمي “منظمة جمعيات الطلاب في شمال أفريقيا” موريتانيا، المغربن تونس، والجزائر. وكنا ندعم كل حركات التحرر في القارة الأفريقية في العالم، وكانت هناك مجموعة من المنظمات التي تكتلت من مختلف أنحاء العالم سواء من مدغشقر أو من كمبوديا أو أوالمغرب أو السنغال أو موريتانيا.
لقد دخلنا في سنوات الاستقلال، وموريتانيا كما تعلمون استقلت في 28 نوفمبر 1960 على غرار الكثير من دول غرب أفريقيا التي استقلت في نفس الفترة، وفي هذه الفترة كان هناك ما يسمى اتحادية دولية تجمع كل دول غرب أفريقيا، وكان السؤال المطروح هل هذه الدول ستذهب إلى الاستقلال بشكل فردي أو ستبقى مجتمعة حتى تنال استقلالها وهي مجتمعة في إطار تلك الاتحادية الدولية، ومن البديهي أن فرنسا لم تكن مهتمة باتحادنا بل كانت ضده، ولهذا اتخذ الشيخ توري قرارا باستقلال غينيا، ولكن فرنسا ظلت حريصة على الإبقاء على ساحل العاج والسنغال وما كان يسمى حينها السودان (مالي حاليا) إمرتها. الشيخ توري وموديبوكيتا وهوفويت ابوانيي كانوا يشكلون كتلة معارضة لاستعمار الدول الأفريقية،ولكن لأن ساحل العاج ساعتها كان أغنى هذه الدول فقد تعرض هوفويتلعدة ضغوط من طرف فرنسا أجبرته على إعلان الاستقلال بشكل أحادي وهكذا انتهت هذه الكتلة والتحالف وأعلنت كل دولة استقلالها على حدة. وبقيت السنغال والسودان دوما في إطار تكتل “مالي” ولكن تحت السلطة الفرنسية، وبعد أن وصلت الخلافات بين موديبو كيتا وليوبولد سدارسنغور نقطة اللاعودة بتحريض من الفرنسيين فكت الدولتان ارتباطيهما، وأنت حين تمعن النظر في الرايتين السنغالية والمالية ستلاحظ أن الفرق فقط هو النجمة التي أضافها السنغاليون بعد أن فكوا الارتباط بمالي بينما احتفظت مالي بنفس راية السودان الفرنسي الأصلية.
أنا أنتمي إلى تيار يؤمن ب”الوحدة الأفريقيةpanafricanisme ” إننا تلاميذ كوامينكروما وموديبو كيتا وباتريس لومومبا الذي كان يكافح من أجل اتحاد دول وسط أفريقيا وقتله الفرنسيون وكذلك والأب برتلمي بوغاندا والذي تم اغتياله من طرف الفرنسيين. إن استقلال هذه الدول كان يمثل قضية مهمة بالنسبة للفرنسيين، وكما تعلمون فإن الغرب لا يعيش ولا يستثري إلا على ظهورنا، على مصادرنا البشرية أولا من خلال اليد العاملة المجانية من خلال العبودية، وعلى جميع مصادرنا المنجمية والغابوية والبحرية، وهذا الأمر مستمر حتى اليوم. حتى الآن استقلال الدول الأفريقية مجرد استقلال صورة، لأنه ليس مؤسسا على قواعد سيادية، سواء على المستوى الاقتصادي والمالي أو المستوى العسكري، لأن فرنسا ما زالت لدينا قواعد عسكرية ثابتة في الدول الأفريقية.
والآن لنعد إلى موريتانيا ففي عام 1959 سافرت إلى فرنسا من أجل مواصلة دراساتي ولكني أيضا كنت أمارس نشاطاتي السياسية، وكنت منالمتمسكين بضرورة إنشاء اتحاد دول غرب أفريقياإلى جانب بعض أساتذتنا الموريتانيين حينها مثل مامودو صمبا بولي با وممادو با وحرمه ولد بباناوالذي كان يدعو إلى اتحاد غرب أفريقيا والمغرب العربي، وكنت منخرطا في ما أطلقنا عليه “منظمة المنحدرين من ضفة نهر السنغال” وقد انتميت إلى هذه الفكرة التي هي الوحدة الأفريقية إلى جانبعبدو دجوف الرئيس السنغالي الأسبق والشيخ أنتا جوب.
إن نضالنا هو نضال سياسي واقتصادي وثقافي، فأفريقيا لها ثقافة غنية ولها خيرات كثيرة، ولكنها دون استقلالها ستظل فقيرة ومستغلة، ولهذا حينما عدت إلى موريتانيا سنة 1968 مع زوجتي النيجرية انخرطنا في النضال معا، وكانت أستاذة وعلمت موريتانيين كثيرين. وهكذا أسسنا “الحركة الوطنية الديموقراطية” مع الكثيرين من الموريتانيين سواء كانوا بيظانا أو حراطينا أو زنوجا، فقد كنا جميعا نسعى إلى تحقيق سيادة موريتانيا، كنا متفقين على مقاومة الاستعمار الفرنسي، حيث كان هنا ما سمينا “النيوكونيالية الفرنسية في موريتانيا” وتجسدت في قواعد عسكرية موريتانية وفي تداول عملة الفرنك الفرنسي في موريتانيا كما في كل مستعمرات دول غرب أفريقيا كما كانت فرنسا تضع يدها على الموارد الاقتصادية الوطنية، وهكذا دخلنا في نضال مفتوح ضد فكرة الحزب الواحد (حزب الشعب الموريتاني) والنقابة الواحدة (اتحاد العمال الموريتانيين). وهنا إلى قصة إنشاء حزب الشعب الموريتاني فحينها كنت طالبا في فرنسا وقد تم استدعائي مع مجموعة من الطلبة من أجل المشاركة في مؤتمر تأسيس حزب الشعب الموريتاني، ومنذ البداية بدأت الأمور تنفجر، لماذا تنفجر؟.. لأنه كان هناك أشخاص على اللائحة ينتمون إلى “النهضة” وكانوا يرون أن المؤتمر يجب أن تكون أعماله إما باللغة الفرنسية أو باللغة العربية ولا يجب أن تكون هناك ترجمة، فقلنا إنه إذا لم تكن هناك ترجمة فكيف سيتخذ المشاركون الذين لا يجيدون لغة المؤتمر قرارات بناء على اقتراحات لم يفهموها بسبب حاجز اللغة، وهكذا قاطعت إلى جانب آخرين حيث اشترطنا وجود ترجمة مهما كانت اللغة.. إذن مسألة اللغة منذ البداية كانت حاضرة، وهو ما جعل الزنوج الموريتانيين يقاطعون المؤتمر وخرجنا من قاعة الاجتماعات، ولكن هناك شخص من تنبدغه اسمه بوياكي ولد عابدين وقف إلى جانبنا واعترف بصواب مطلب الترجمة وهكذا قام برأب الصدع، وربما لأنه من منطقة متنوعة ثقافيا وهذا جعله يفهم ضرورات التنوع لأنه من الحوضين والحوضين كما تعلمون كانا منطقة تابعة للسودان (مالي) قبل أن تصبح جزء من موريتانيا. عدنا إلى المؤتمر بعد أن حلت مشكلة الترجمة. إذن مسألة اللغة طرحت منذ 1961.
عندما صعدت شخصيا المنصة كان هناك في الصف الأول للمؤتمر شيوخ القبائل والشيوخ التقليديون فكان هناك “ولد كركوب” وهو قائد بعثة اسماسيد آدرار وكان جالسا في المؤتمر ويحمل سلاحه الناري. جاء باسم قبيلته نعم، لقد كان هناك سياسيون وناشطون طلاب ونقابيون وشيوخ قبائل. وعندما صعدت تكلمت عن العبودية وأدنتها، وهنا طالب ولد كركوب هذا بإنزالي من المنصة قائلا: أنزلوا كوليبالي هذا نحن لم نأت هنا من أجل الحديث عن شيء كهذا..! وعندما أخبروه أنني لست كوليبالي وإنما تراوري ما كان إلا أن قال: هذا نفس الشيء لا فرق، نحن لسنا للحديث عن العبودية! وهنا أجبتهك إذا كنا لا نريد أن نتحدث عن العبودية فهذا يعني أننا لا نريد الحرية، فالسياسة قبل كل شيء هي بحث عن الحرية والمساواة والعدالة والاختلاف.
إذن القضايا كانت حاضرة على المستوى الاجتماعي كانت هناك موضوع العبودية، وعلى المستوى اللغوي كان هناك موضوع الترجمة، وسأزودك بوثيقة تؤكد أنني من أول من أشار إلى ضرورة كتابة اللغات الوطنية؛ البولارية والولفيةوالسوننكية من أجل تدريسها وكان ذلك عام 1962.
كان بودي أن أعطيك الوثيقة ولكن يبدو أنها ليست معي الآن، لأنني لا أحمل معي إلا هذه الحقيبة اليدوية الغريبة والتي كما ترى عليها صورة ثعبان، وهو أحد رموز الثقافة السوننكية.. الثقافة السوننكيةغنية كما تعلم، فهذه الصورة الصورة التي على حقيبتي اليدوية الغريبة هي صورة تعود إلى أسطورة “واغادو“، فهذا الثعبان “بيدا” الذي كان يجب ان يمنح أجمل فتيات المجتمع، ثم عندما تعلق الأمر ب”سيا” وعندما رفض خطيبها ذلك وقطع رأس الثعبان وحدث ما حدث وتفرق السوننكي شيعا في الأرض.. إلى آخر الأسطورة.
ولنعد إلى السياسة.. كما تعلمون امبراطورية “غانا” والتي كانت عاصمتها كومبي صالح لها تاريخ غني، والدليل على أنه في عام 1961 عندما كانت الدول الأفريقية في بدايات عهد استقلالها زار موريتانيا الرئيس الغاني كوامي نكروما– وهو رجل عارف بتاريخ أفريقيا– من أجل استئذان المختار ولد بشأن تسمية بلاده ب”غانا” ورغم أن اسمها “شاطئ الذهب” فقد اختار اسم غانا، ولم يكن بإمكانه اعتماد هذا الاسم دون إذن الرئيس المختار داداه. وامبراطورية غانا كان غالبية شعبها من السوننكي وبعد حادثة واغادو التي ذكرنا تفرق السوننكي في أرجاء غرب أفريقيا من ليبيريا إلى غينيا إلى غانا، ولا أدري هل تعلم أن إثنية الهاوسا تجمعها علاقات قربى مع السوننكي، فهذه الطاقية التي أرتدي تعود أصلا على إثنية الهوسا، ولأن الذهب هو “جنون السوننكي” فالسوننكي هم سادة الذهب يبحثون عنه أينما كان؛ فقد تفرقوا في دول كثيرة واختلطوا بشعوب عديدة بحثا عن الثراء، ولذلك يطلق عليهم أيضا “جولا” وكلمة جولا تعني التجار.