فتاة كالنسمة الرّخية، غير أن هبوبها ثقافةٌ.. و تنوعَ مشاربها الفكرية عناقيدُ كَرْم، يهصرها المتعشطون للارتواء من صهبائها.. هادئة في قَلق، و ساكنة في حركة، و دائرة كالمَنجَنون في استقرار.. كل حياتها عطاء و تضحية، وهيام بمعشوقتها: الثقافة الشعبية.
ولدت عزيزة البرناوي لتكون قموطَ مهدها رفوفُ مكتبة جدها التقليدية، حيث كانت تناغي العقد الفريد و أدب الكتاب و فتح الباري و صحاح الجوهري.. و كان جدها يقرأ على مسامعها من كتبه.. فكانت حين تريد الطفلة الصغيرة أن تلعب تغرق وجهها بين دفتي كتاب.. و إن أزكمتها رائحة الحواشي الصفراء، وجدت سلوتها في الأغلفة الناعمة لمكتب أبيها الأستاذ الجامعي السيسيو ـ ثقافية . مهتمة بالثقافة الشعبية الحسانية، رغم أنها درست الإبتدائية في مدرسة “سونونكية” (مدرسة محمد الأمين ساغو) في مدينة روصو الحدودية، التي لم تغادر مدارسها إلا بعد أن حصلت على الباكلوريا، لتنتقل لجامعة نواكشوط، حيث درست علم الإجتماع، الذي حصلت فيه على شهادة “المتريز”.
حلمت عزيزة، الحالمة أبداً، بأن تكون طبيبة تساعد في شفاء المرضى و تخفيف معاناتهم، فالتحقت بمدرسة الصحة العمومية، بعد أن أخفقت في التسجيل في كلية الطب، و حصلت منها على دبلوم عال. تقول عزيزة “إنها قرأت صغيرةً كتاباً قيد التأليف وأبدت ملاحظاتها عليه فتم اعتبارها، مما منحها ثقةً و مَلَكةً في التأليف و التصنيف”.. حب المطالعة و مداعبة الأوراق و القراطيس أورقَ فكانت “أصغر كاتبة موريتانية”. كانت بدايتها من خلال تديون يومياتها، وهي عادة دأبت عليها منذ الطفولة، حتى أصبحت تجري منها مجرى النَفَس.. ثم لم يتوقف اليراع عن رُعافه على مهارقه، فصدرت لعزيزة ثلاثة كتب، أشاد بها النقاد و القراء. لا طقوس لديها للكتابة، فكلما تحتاجه عزيزة ـ كما تقول ـ : “هدوء، و قلم رصاص، و متسع من الليل”.. فالليل هو صديقها الذي “تحزن للمتبقي منه”، كما هو حال مظفر النواب.
تعشق بنت البرناوي اللهجة الحسانية حدَ التدله، فهي “لغتها و ثقافتها” و قد أكل حبها من حشاشة نفسها، غير أن أهتمامها تقاسمته بقية “اللهجات”، فهي لا تكتب إلا عن الثقافة التي تلّم بها، غير أنها تدير مركزاً للثقافة الشعبية يسعى لرفع حاجز اللغة بين مكوّنات المجتمع الموريتاني المتعدد الأعراق و النوازع.. “فرفع حاجز اللغة ـ تقول عزيزة ـ هو الخطوة الأولى لتقوية اللحمة الوطنية.. حاجز اللغة هو العائق الأساسي”.
تؤكد بنت البرناوي. سبقت فكرة إنشاء مركز الثقافة الشعبية عدة “مبادرات فردية” دُفنت في مهدها، لهذا فإن حَدَبها عليه حَدَب المِقلاة على وحيدها.. “لا أفتأُ ألفت انتباه المجتمع الثقافي لأهمية الدور الذي يلعبه المركز في حفظ و صيانة الموروث الثقافي الأصيل.. و أتمنى أن يؤتي أكله” تقول عزيزة. عائق آخر ينغص صفوها، فهي لا تجد الوقت الكافي للتوفيق بين واجباتها اتجاه زوجها و طفلها الصغير و شؤون إدارتها لمركزها، غير أنها تبذل جهدها ـ كما تقول ـ لتتغلب على عسر البدايات و تعثراتها.
لا تحب عزيزة البرناوي السياسة، فهي تعتقد أن “الساحة الثقافية” أولى بجهودها، غير أنها تقول إنه لو قُيّض لها أن تقود البلاد فسيكون أول قرار لجمهوريتها “تنظيم مسابقة شفافة للشباب، ذوي الكفاءات، و تشكيل أول حكومة منهم”.
حين تتطلع عزيزة البرناوي في مرآتها ترى “عجوزين، وَخَطَ الشيب مفرقيهما، و أحدودبا، غير أن أحداهما اجتهدت في شبابها فحصدت تاريخاً مشرّفاً.. و الأخرى اقتصرت على أن تعيش اللحظة فحصدت التجاعيد.. تفزع عزيزة ـ كما تقول ـ و تهرع لتأخذ من شبابها لهرمها”.. ثم تلتفت لبنات جيلها، فتخاطبهن: “لا ضير في أن تعيشوا اللحظة، و لكن احذروها أن تلتهمكن.. بادروا.. بادروا.. الوقت لا ينتظر”..
أمين ولد شيغالي