قيل أن الديمقراطية هي النظام الأحسن من بين أسوأ الأنظمة السياسية التي تمت تجربتها عبر التاريخ ؛ لذا اعتمدها الإنسان نظام حكم يدافع عنه باستماتة، لكنها ستبقى في الواقع مجرد طريقة حديثة لظلم البشر بعضه البعض كما هو الحال في الغرب اليوم والغرب عراب الديمقراطية. فالنظام الديمقراطي الذي ابتكروه ليس إلا اتفاقا بين الأطراف السياسية على أن يتحلى المهزوم بالروح الرياضية ليقبل فوز منافسه ويهيمن على مقاليد الأمور، مع المحافظة على الحقوق الأساسية للطرف المهزوم.
أما بالنسبة لنا نحن الموريتانيين، فغالباً ما يكون المعارض في موقف التهمة، لأنه قد يكون في مهمة تجسس لصالح السلطة القائمة، لأنه لا يُعقَلُ عندنا أن يكون المسؤول صاحب مبادئ، كما أنه غير حكيم بوقوفه ضد السلطة؛ والموالي لابد أنه متملق ومنافق، خاصة إذا غيّر ولاءه السياسي؛
وهنا سأستحضر بكل فخر النجاح (النسبي) للفترة الانتقالية الاولى 2005-2007 التي نجح فيها الانتقال الديمقراطي، على علاته، بعد تنظيم جولة ثانية بين المترشحيْن آنذاك، ولأول مرة في تاريخ البلاد، ولن ننسى -ما حيينا- خيبة الأمل التي أصابت المتعطشين للتغيير بعد نجاح مرشح العسكر والزعامات التقليدية، إذ تم رفض جميع التنازلات التي تقدم بها مرشح التغيير آنذاك أحمد ولد داداه؛ الذي كان يعتبر الأحق بالفوز، نظرا إلى تاريخه ودوره البارز في المعارضة السياسية الملتزمة، فمنذ ذلك الحين والرأي العام شبه يائس من إمكانية التناوب السلمي الديموقراطي في البلاد؛وعلى الرغم من المرارة آنذاك؛ كنت شخصيا من بين الذين تمنوا للرئيس الطيب المرحوم بإذن الله السيد سيدي ولد الشيخ عبدالله إكمال فترته الرئاسية بسلام، لإعطاء الفرصة لتعزيز الديموقراطية في موريتانيا، رغم أنه كان -رحمه الله- يقول إنه تم إقحامه في قضية لم يكن أصلا مهيئأً لها !! ثم حصل ما حصل فتضررت البلاد من انكسار الديمقراطية رقيقة العظم بعد انقلاب 6/6/2008 الذي أعادنا إلى المربع الأول للأسف…
اليوم قد أتفهم عدم حصول التناوب الديموقراطي الذي كان مأمولا ؛ بعد أن دفعنا ثمنا باهظا في الانتكاسة الدستورية 2008-2009 ونتيجتها الطبيعية ما حدث في العشرية المعروفة؛
واليوم-كذلك- أتفهم تماماً وأتوقع نجاح الرئيس المترشح محمد ولد الشيخ الغزواني والأجهزة التقليدية التي أضاف إليها بصماته الواضحة من حيث الأخلاق السياسية واحترام المعارضين، إلى جانب برامجه الاجتماعية؛ ليتمكن من مواصلة برنامجه الإصلاحي المثقل بالأماني والتطلعات التي ينتظرها جميع الموريتانيين.
ومن أصعب ما ينتظره المواطن الموريتاني إصلاح القضاء وبسط يد العدالة الاجتماعية وإضفاء المسحة الأخلاقية على تسيير الشأن العام تماما، كما هو الحال في ما قيم به في المجال السياسي والاجتماعي؛ لاستفادة الجميع من البرامج الاجتماعية والاقتصادية ولإخراج المواطنين من الهشاشة الاقتصادية والبطالة التي طالت الشباب في جميع البيوت؛ وذلك بعد ما نجح الرئيس المترشح في تعزيز الأمن والسلم الاجتماعي من خلال التهدئة بأسلوبه السلس والاهتمام بالفئات الأكثر احتياجا إضافة إلى بصماته الاخلاقية التي أثرت إيجاباً على المسار الانتخابي؛
وقد لاحظنا أن هذه الحملة الانتخابية باهتة، بسبب الظاهرة العالمية لعزوف الناس عن الشأن السياسي والاستسلام لارادة السياسيين؛ فهي الأهدأ، أو لنقول الأقل توتراً بالمقارنة مع سابقاتها ؛ حيث وجه الرئيس المنتهية ولايته بعدم تجريح أي من المترشحين مهما كانت حدة خطابه أو تطرفه ؛ والله وحده يعلم أننا عانينا في الحملتين السابقتين التي عجت فيهما الساحة بخطابات العنصرية والكراهية التي زادت الهوة بين مختلف المكونات الاجتماعية والسياسية في المجتمع الموريتاني، والذي من أهم أسبابه سوء الحكامة العمومية في الفترات السابقة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية؛
نحن الموريتانيون أمة وسط ومجتمع مسالم لا نحب التطرف حتى لو كان في الدين؛ وقد انتبه لذلك أحد المترشحين، وأدرك مدى خطورته عليه وصعوبة حصوله على دعم المكونات الأخرى، حيث عمل على محاولة تهذيب خطابه السياسي مؤخرا لعله يتدارك ما خسره بسبب خطابه المقيت؛
وفي ما يتعلق بمأمورية الشباب المرتقبة، آمل أن تكون حقيقية، علَّها تكون الأجدر بإكرام وإنصاف لأخواتهم النساء؛ لأنه يبدو أن شيبنا لم يقتنعوا بعد بأهمية إشراك المرأة، ولكن ليفهم الشباب أن المطلوب هو تمكينهم مهنيا وتكوينا وتشغيلا وتمويلا مع ضرورة تغيير العقليات حتى ولو كانت معظم الوظائف الساميّة ستبقى بين الأقلية من المسنين، فالأمر لا يتعلق بالسن فقط؛ ومن الغريب قول البعض أنه لا يمكن لمن يريد مأمورية للشباب أن يُجلس المسنين مثل أحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير وغيرهما في المقاعد الأمامية من منصة ملعب ولد بيديه ليلة افتتاح الحملة الانتخابية، أي منطق هذا الذي يطالب بإبعاد أهل التجربة والحكمة !؟
من المعروف أن السن مجرد رقم، يمكن للشاب أن يكون ناضجا ومسؤولا قادرا على قيادة الشأن العام ؛ كما يمكن أن يكون المسن عكس ذلك غير ناضج ومتهور، فلا حكمة لمسن لا يشرك الشباب ولا خير في شباب لا يحترم كبار السن وقدامى الموظفين؛
أنا شخصياً أومن بضرورة تسليم مقود الشأن العمومي للشباب المتمكن والناضج ليتولى مهمة تكوين وتمكين الفئات الأقل تمكينا من الشباب والنساء؛ وذلك شريطة وضع الموظفين المتقاعدين في ظروف تسمح لهم بحرية التحرك ومواصلة مسيرة العطاء في الأعمال المناسبة لهم في حياة كريمة؛ ولا مانع أبدا من تكليفهم بالمناصب الاستشارية؛
نرى الآن مثلا شبابا (وشيبا) ناضجا وقادرا على قيادة البلاد من بين المترشحين الحاليين للرئاسة معارضين وموالين؛ كما يوجد في الحكومة الحالية شاب واحد على الأقل قادر على قيادة الحكومة المقبلة في حال تقرر ضخ طاقات جديدة لاستحداث التغيير في ظل الاستقرار؛
وما لا ينبغي حقيقة هو رفض التجديد ومواصلة توظيف أجيال لم يعد لديهم القدرة على العطاء وإقصاء الأجيال النظيفة القادرة على البناء والتنمية، ومن الأهمية بمكان أن نلتف حول الرئيس المترشح، لمساعدته على تحقيق أهدافه في مهمة الإصلاح من خلال طرح الأصبع على مكان الوجع، والضغط على الحكومة للقيام بمهمتها على أكمل وجه.
ختاماً؛ آمل أن ينجح الرئيس المترشح في إكمال برنامجه الإصلاحي، فهو الأمين والأقدر على مواصلة البناء، مع ضرورة مراجعة بعض جوانب نهجه لتجديد الطاقات، سبيلا إلى اجتثاث جذور الهشاشة والبطالة في مأموريته ألأخيرة التي قد تكون خاتمة فترة الحكم العسكري بطريقة سلسة ناعمة تهتم ببروز نخبة شابة وناضجة قادرة على تسلم السلطة من آخر حاكم ذي خلفية عسكرية حكيم، إنه فعلا القائد الأنسب لقول “اليوم أكملت مهمتي وأنهيت عنكم حكم العسكر وعززت لكم الديمقراطية”.
ولمَ لا؟ هل نستبعد ذلك على رجل فاجأنا في طريقة حكمه وتعامله مع الناس، حيث مزج بين العصا والجزرة والشدة واللين حتى تجاوز حتى الآن أصعب العراقيل في طريق تحصين البلاد من الاهتزازات والتهديدات الداخلية والخارجية؟!
———
*خبيرة في الحكامة العمومية و وزيرة سابقة.